هنالك بطبيعة الحال جوانب متعدده لعملية اصلاح التعليم تشمل المناهج، طرق التدريس، إعداد المعلم، المؤسسات التعليمية، شروط الخدمه، ولكن الخطة المطلوبه كجزء من الاستراتيجيه خلال مرحلتها الاولي يتحكم فيها اعتباران، حسب تقدير هذه الورقه. الاول مشتق من الرؤية العامة التي تطرحها الورقه حول محدودية قوة الدفع التغييري الان مجتمعيا وتاليا سياسيا مايعني اختيار اهداف جزئيه متواضعه تتدرج نحو الاقل تواضعا بنسبة ازدياد قوة الدفع. لذلك يلاحظ ان الورقه تستخدم مصطلح " اصلاح " المنظومه التعليميه وليس تغييرها جذريا، مع ان هذا هو المطلوب مثاليا لأعادة بناء حقيقية للانسان السوداني. الاعتبار الثاني هو اعطاء الاولويه لاصلاح التعليم العام، خاصة مرحلة الاساس. فبالرغم من التأثير المتبادل سلبا وايجابا بين مختلف المراحل التعليميه، الا ان التأثير من تحت لفوق هو الاجدي. ويبقي العامل الحاسم، أيا كانت الاولويه، تحويل قضية إصلاح التعليم الي قضية رأي عام بأبتكار وتنفيذ أساليب نشر الوعي والتعبئه. والمطلوب هنا جهد عملي يتميز بالمؤسسية والمثابره في اوساط الاباء والامهات لاسيما من الفئات العمريه المعنيه ( المتوسطه ) والطلبة والعاملين في السلك التعليمي بمختلف درجاتهم ومن خلالهم الراي العام السوداني اجمالا. كل خطوه بأتجاه تحقيق هذه المهمه تعتبر في حد ذاتها خطوة تحقق عملي لهدف الاصلاح لانها تعني بداية تشكيل مراكز ضغط . ولعدم تشتيت هذه الجهود خارج البؤره المحدده ( التعليم العام ، الاساس خصوصا ) بما يجعلها أكثر فعاليه، تعد وثيقة تتلخص خطوطها العريضه في: مقدمة توضح اهمية الناحية الكيفية في التعليم بمختلف درجاته بما يؤشر عيوب السياسات الحاليه ثم التركيز علي مرحلة الاساس علي هذين الصعيدين بتفصيل اكبر وبعد ذلك تحديد الاصلاحات المحدده المطلوبه. بما ان الوثيقه-البرنامج لاتستهدف في المرحلة الاولي اكثر من فتح باب الشروع بعملية الاصلاح ومخاطبة واستقطاب اوسع قاعدة ممكنه من الجمهور العام غض النظر عن اي اعتبارات، فأنه يستسحن التركيز علي : ( 1 ) هدف اصلاح السلم التعليمي أكثر من المناهج لان هناك مايشبه الاجماع علي ضرورة اضافة عام لمرحلة الاساس وتقسيمها لجزئين. ولان الاستعداد الرسمي للتنازل بشأن المناهج اقل كثيرا فأن من الممكن التركيز علي (2 ) مطلب تخفيف حجم المنهج اكثر من إجراء تعديلات عليه ( 3 ) زيادة نصيب التعليم في الميزانية الاتحاديه ودعم المركز للولايات. هذه المقترحات بشأن التفاصيل هي مجرد اشارات لما يمكن ان يتمخض عن لجنة مصغره لاعداد الوثيقة- البرنامج في صيغتها النهائيه تشكلها المعارضه وذلك لضمان الالتزام بقاعدة " فن الممكن "، الحد الادني القابل للتنفيذ الان، مما يجعلها متمشية ايضا مع كون الرافعة الاساسية لتنفيذ البرنامج هي المجتمع المدني اللاسياسي، كما سيشرح لاحقا. يمكن للجنه الاستعانة بخبرة مجموعة من العاملين في حقل التعليم او ذوي الاهتمام الخاص به بصرف النظر عن صفتهم الحزبيه او عدمها، مع وضعهم في صورة الحدود التي يتحرك فيها البرنامج علما بأن ذلك يساعد بالنسبة للمكون الثاني للخطه، وهذه ايضا مجرد مقترحات، وهو تنظيم سلسلة من النشاطات العامة المتنوعة مثل المحاضرات والندوات وورش العمل، الكتابة في الصحف وكل اجهزة الاعلام التي يمكن الوصول اليها. علي ان العائد المطلوب من برنامج التوعية العامة هذا وهو تحريك اوسع قطاعات المجتمع لن يتحقق اذا لم يسبقه استيعاب الوثيقة والفلسفة الكامنة وراءها من قبل قواعد احزاب القوي الديموقراطية نفسها سواء فيما يتعلق بالاصلاح التعليمي عموما او بأقتصار مفردات البرنامج حاليا علي الحدالادني، وتوعيتها بأهمية دورها، افرادا وجماعات، في تنفيذه بالمساهمة النشطة في التنظيم الطوعي المفتوح لكل من يستثير الموضوع اهتمامهم بصرف النظرعن ميولهم السياسيه. بعبارة اخري شرط نجاح تنفيذ البرنامج هو تسليمه لقوي المجتمع المدني ونزع اي صفة او تصرف يجعل منه جزء من المعركة السياسية ضد السلطه، او حتي يوحي بذلك. هذا كما شرح من قبل ليس الاختيار الافضل من وجهة نظر المصلحة العامه فقط وانما هو اضطرار مفروض علي المعارضه وقوي التغيير عموما بحكم ضعف وزنها راهنا.
( 2 – ب ) المجتمع المدني
( 2 - ب -1) توظيف المجتمع المدني كهدف
التعريف البسيط لمصطلح المجتمع المدني هو كونه مجموعة تشكيلات طوعيه لاحكوميه ولاربحيه مداره ذاتيا بين مجموعة من الناس لخدمة مسألة معينه تتعلق بشئون حياتهم في الحي اومكان العمل او خارجهما بصفتهم الفردية المواطنية المجردة عن اي صفة سياسيه او اثنيه- قوميه او جهويه. من هذه الخاصية تنبع قدرة المجتمع المدني علي اجتذاب مجموعات كبيره بالمقارنة للاحزاب حول المسأله المعينه التي تقوم عليها احدي تشكيلاته، والاهم من ذلك، توفير مجال لتحمل المسئوليه بالتفاعل الحر بينهم.
ان المخزون المعرفي والثقافة السياسية العربية والسودانيه لم يتعرفا علي مفهوم المجتمع المدني الا قبل عقدين من الزمان ونيف تقريبا، مما يفسر عدم التقدير الكامل لفعالية دوره في تقدم المجتمع والوطن من قبل الناشطين السياسيين والفكريين حتي في ظروف التطور العادي. أهم تجليات عدم ادراك هذا المفهوم والاستهانه بدوره هو انتشار ممارسات السيطرة الحزبية علي هيئاته من كافة التوجهات السياسية السودانيه وصولا الي الحد الاقصي مع حزب المؤتمر الوطني ( الاسلامي )، الامر الذي يعكس في جوهره الاستهانة بما يمكن للفرد العادي تحقيقه اذا فتح امامه مجال التفكير والعمل دون قيود لان اشتغال الافراد الحر بالقضايا التي تهمهم مباشرة، مهما كانت بسيطه، ودون ارتباطات او ظلال سياسيه مع او ضد نظام معين ومع او ضد حزب معين وانما بدافع ذاتي، ينمي روح المبادره والتفكير النقدي المستقل لدي المواطنين وهذه في الحقيقه بذرة تحرير عقل الانسان وارادته واطلاق قدراته اللامتناهيه علي الابداع. علي هذا فأن للمجتمع المدني دور رئيسي فيما يتعلق بتفكيك المرجع القاعدي لازمة الديموقراطيه وهو ضعف ركيزتها في رصيد العقلانية والاستناره السوداني. كما ان حرص الاستراتيجية علي عدم تسييس تشكيلات المجتمع المدني باخضاعها للمصلحة الحزبية مجردة كانت او موجهة ضد النظام، ليس موقفا اخلاقيا يضع المصلحة العامة فوق المصالح الحزبيه ومطلوب في حد ذاته لهذا السبب، ولكنه مفيد ايضا لهدف التنمية الاستناقراطي ويتمشي، علي اية حال، مع حالة النفور من العمل السياسي كأحد إفرازات فشله وانتشار عقلية التواكل الغيبي والروح الفرديه والميول الجهويه.
كما هو الحال بالنسبة لهدف الاصلاح التعليمي فأن تحويل موضوع المجتمع المدني الي قضية رأي عام يقتضي أبتكار وتنفيذ مختلف الوسائل اللازمة لتنظيم حملة تثقيف وتعبئه فعاله للتعريف به والكيفية التي يؤدي بها دوره الحيوي بدء بكوادر المعارضه نفسها باعتبارهم رأس الحربه للحملة . وبما أن العمل التطوعي المدني يغطي كافة جوانب حياة الانسان واحتياجاته من حفر مجاري الخريف الي حل مشكلة دارفور، لاسيما في مجتمع تتكاثر فيه هذه الاحتياجات بسبب القصور الشنيع للجهد الرسمي، فان الحصيلة التطبيقية للحمله ينبغي ان تكون تأسيس تشكيلات المجتمع المدني في المجالات التي تنعدم فيها الان وتنشيط القائمة منها والارتقاء بمستوي ادائها الي الصورة المثلي.
اضافة لذلك فأن الحملة ستساعد في التغلب علي العقبة الكبري في هذا الصدد وهي القيود الادارية والسلطويه التي ينطوي عليها قانون العمل التطوعي الحالي. فبينما يظل توقع امكانية تحقيق تعديل ملموس في القانون علي المديين القصير والمتوسط أمرا غير محتمل بالنظر لوضع ميزان القوي السياسي حاليا، الا ان ادارة حملة فعاله حوله تفتح الباب لحدوث التعديل علي المدي الابعد. والمطلوب الان، كما هو الحال بالنسبة للاصلاح التعليمي، اخضاع هذه المسألة لدراسة موضوعيه تحدد الممكن وغير الممكن راهنا وكيفية تحقيقه للبناء عليه مع تحسن وضع التوازن. ولابد لمثل هذه الخطه ان تتضمن هدفا هو في مقدور المعارضة تماما : تطهير صفوفها من العناصر المنتمية اليها التي تمارس تشويها لهيئات المجتمع المدني لايقل عما تمارسه الاوساط الرسميه يتمثل في احتكار المواقع القيادية او/ و استخدامها للاسترزاق الاعاشي والاستمتاع بأمتيازات السفر وغيره أو استغلالها كسلم للوصول الي وظائف في المنظمات الدولية والاقليميه. هذا شرط لايقل اهمية عن شرط تجنب التسييس لنجاح الحمله.
من جهة أخري يشار الي ان التمويل يشكل عقبة كبري في وجه التوسع بتشكيلات المجتمع المدني لانه مهما بلغ النجاح في تعبئة الموارد السودانية الداخلية والخارجيه، فأنها ستقصر كثيرا عن الوفاء بأحتياجات نشاطات المجتمع المدني نظرا لتعدد جبهاته مع ضعف موارد السودانيين بسبب انتشار الفقر الذي يجعل الاغلبية العظمي عاجزة عن الدعم المالي بل وحتي عن تغطية تكاليف بسيطه مثل اجر المواصلات للمشاركة في العمل التطوعي. هذا ماسيجعل الاستعانة بالتمويل الخارجي والعون الفني (التدريب وغيره ) من المصادر الدولية والاقليمية والثنائيه لامفر منه مع توضيح الاحتياطات اللازمه في الخطه تجاه اي اجنده خفيه للمانحين واخري لمواجهة هجوم السلطه الدعائي والقانوني من هذا المدخل بحجة العماله وغيره. وهو هجوم مؤثر حاليا بسبب انتشار القابلية للاستجابة الي هذا النوع من التعبئه التي توحد بين الوطن والنظام في ظروف الانخفاض المريع لمستوي الوعي العام، وتشكل الشفافية الكامله خط الدفاع الرئيسي امامه.
بمرور الوقت المصحوب بعمل جاد ومثابر ومدروس ستتكاثر هيئات المجتمع المدني وتتحسن نوعيتها ويتعاظم الاثر الايجابي للطبيعة الاختيارية للروابط بين اعضائها في تطوير العقلية والسلوك، وهي تمارس نشاطها من خلال علاقة الاقناع والضغط مع الدوله كأجهزة بيروقراطيه و حزب حاكم وقياده رسميه حول المسألة التي تتبناها الهيئة المعينه. وبالرغم من لاسياسية هذه الهيئات فأن كون طبيعتها تنمي قابلية التفكير والتصرف الايجابي والمستقل توفر المناخ الملائم لانتاج نوعية راقية وفعاله من العضوية الحزبيه تعيد الاعتبار للعمل السياسي الحزبي في نظر الجمهور الواسع ومن ثم الاقبال عليه.
لقد لعب المجتمع المدني دورا مباشرا في الانتقال من الانظمة الشمولية الي الانظمة الديموقراطيه كما هو الحال في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وغيرهما حيث ادت خصوصيات الشمولية فيهما الي تفريغ الساحة من الاحزاب، ولكن الواقع هو ان مفهوم المجتمع المدني يتسع ايضا للتكوينات الحزبيه إذا توفر فيها شرط الديموقراطيه الداخليه لكونها اطر تنظيميه غير حكوميه تضم مجموعة من المواطنين علي اسس تطوعيه وغير ربحيه. بذلك يطرأ تغيير هام علي مفهوم العمل السياسي الحزبي كما يمارس في السودان اذ تصبح ديموقراطيته هي جوهر تعريفه لكونها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الهدف منه وهو تنظيم مشاركة المواطنين في الحياة العامه، وليس مجرد العضوية النشطة اوالخامدة في الاحزاب او مناهضة الحكومة او تأييدها. وفق هذا التعريف فأن اكثر الاحزاب عداء لسلطة دكتاتوريه يكون من اقوي دعائمها اذا انعدم فيه شرط الديموقراطيه لانه يساهم بذلك في تشكيل العقلية الشمولية التي يجسدها النظام ففاقد الشئ لايعطيه. وهو مايفسر حقيقة ان أحزابنا التي استعادت الديموقراطيه في عامي 64 و 85 هي نفسها التي فشلت في الحفاظ عليها بتطويرها وتجذيرها في العقلية والسلوكيات الجمعيه .وحقيقة الامر هي ان عملية ( الدمقرطة/ الدقرطه ) في الاحزاب السودانيه لم تبدأ جديا الا بعد انقلاب الجبهة القومية الاسلاميه ولازالت تواجه صعوبات كبيرة بعضها ناتج عن المقاومة من قبل مراكز ومصالح وعقليات داخلية مؤثرة فيها والاخر عن ظروف الضغط الدكتاتوري الخارجي الناعم والخشن التي تتم فيها العمليه، متفاعلة مع السبب القاعدي وهو الشح التاريخي للرصيد الاستناري وتقلص القدر الضئيل المتحقق منه .
2 - ب -2 تنشيط المجتمع المدني كوسيله
كما هو الحال بالنسبة للمجالات العديده التي تغطيها نشاطات العمل التطوعي المدني من ابسط المسائل الي اعقدها، فقد كان ولازال للمجتمع المدني دوره في تطوير التعليم حتي في الظروف العاديه. واستثنائية دوره في الاستراتيجية المطلوبه للعمل السياسي السوداني الان تعود الي كونه المصدر الوحيد تقريبا للتاثير علي السلطه بسبب ضعف المصدر الحزبي مع ملاحظة ان الشرط الاساسي لقيام المجتمع المدني بهذا الدور التعويضي لدور الاحزاب هو التزامها، حرفا وروحا، بتحييد هيئاته سياسيا مهما كانت قوة حوافز التصرف المعاكس سواء كرد فعل لتصرفات المؤتمرالوطني او تأثرا لاشعوريا برواسب تقاليد تسييس النقابات والاتحادات من قبل احزاب المعارضه. ومهما كانت صحة الحجة القائله باستحالة التحييد الكلي للمجتمع المدني سياسيا خاصة في ظروف العالم الثالث، فأنها غير ذات موضوع بالنسبة للمعارضه لان اللاتسييس هو الخيار الوحيد امامها.
وبما ان الاهداف المتوخاة في هذا المجال تشمل توعية وتعبئة المجتمع أفرادا وجماعات حول هذه القضيه وصولا الي التأثير الضاغط مباشرة وغير مباشرة علي السلطة الحاكمه، حسب تقدير توازن القوي في اللحظة المعينه، فأن خطة العمل تتسع للخطوات الجزئية والبسيطه وصولا الي اكبرها وتتسع بالتالي للجهود الفرديه وكذلك الجماعية من ابسط اشكالها وأحجامها الي اعقد اشكالها واكبرها. من نماذج النشاط الذي يدخل في هذا الاطار توسيع اهتمامات العضوية في مجالس الاباء والامهات في حي معين خارج حيزه التقليدي، دعم المدرسه الخ.. الخ..، لتشمل الشكوي الفرديه ثم الجماعيه من السلم والمناهج والتمويل حسب مايرد في البرنامج ومايتعلق به. ثم تطويرها في شكل مقابله او مذكره لمخاطبة الجهات الرسمية المحليه بهذا الشأن بواسطة المجلس او ممثلين عنه في حي معين او عدة احياء تقع في نطاق الجهة الاداريه المعنيه. حذف الحكومه ولائية كانت او مركزيه من الصوره في هذاالنموذج من النشاطات الممكنه يساعد أيضا في التأكيد علي لاسياسيتها مما يسهم في توسيع دائرة المهتمين بها كما انه يدرب المواطنين علي فكرة مساءلة الخدمه العامه وليس السلطة السياسية فقط علما بأن هذا النوع من الضغوط علي الخدمه العامه سيجد طريقه للتأثير في السلطة السياسيه عندما يتكثف الي درجة معينه بسبب التداخل التمكيني ( الانقاذي ) بين السياسي والاداري . وحتي إذا لم تتأثر مباشرة فأن المكسب الاهم هو تطوير وعي الناس العاديين وجذبهم الي مجال العمل العام الذي سيؤثر حتما علي المدي الابعد. وبطبيعة الحال يمكن الذهاب بهذه النوعيه من الشكاوي والمطالبات درجة اعلي الي الجهات السياسيه حسب تقدير امكانية حصول فائدة من ذلك.
ونظرا للدور الخاص للعمل النقابي في اوساط المعلمين والطلبه ومنتسبي الوزارات المختصة في مجال الاصلاح التعليمي فأن التركيز علي هذه الاوساط ضمن حملة البرنامج ذو اهمية بديهيه بينما يعني الالتزام الكلي بتجنب التسييس ان الاولويه هي دائما لهدف الاصلاح التعليمي ببنوده المحددة في البرنامج وليس لاضعاف النظام الحاكم سياسيا، وإن كان لممارسة من هذا النوع نتائج ايجابية غير مباشره ومضمونه في هذا الصدد.علي ذلك فأن تقييم مدي فائدة أي خطوة تأثير او ضغط علي السلطه الحكوميه، مثل تقديم عريضه او تنظيم موكب أو اعتصام في تحقيق هدف الاصلاح ينبغي ان يتم بهذا المعيار فقط. وبما ان معطيات الواقع الراهن لاتسوغ توقع نتائج سريعه لجهود المعارضه اعادة هيكلة العمل النقابي بألغاء القانون الحالي فأن النشاط المعني سيتم ضمن الاطر الموجودة حاليا مع ملاحظة ان التطور التدريجي للعمل العام سينعكس ايجابيا في هذا المجال.
الي جانب النشاط والمهمات المتعلقه ببرنامج الاصلاح التعليمي مباشرة هناك مجالات نشاط ومهمات غير مباشره تسهل هذه المهمه وتستفيد من اي تقدم يتحقق في انجازها بنفس الوقت . من ذلك ، مثلا، النشاط المتعلق بتوسيع افاق التلاميذ والطلبه وغيرهم خارج المؤسسة التعليميه بأنشاء مكتبات تسليف خاصه في الاحياء بأمكانيات فرديه او مشتركه بين مجموعة اشخاص تضم كتبا ومجلات متنوعه، اضافة الي الاقراص المدمجه وغيرها من منتجات تكنولوجيا نقل المعلومات، مع التركيز علي ما يتعلق منها بالاحتياجات الثقافية الراهنه ولاسيما فهم وهضم المادة الدينيه. وهو نفس الغرض الذي يمكن ان يخدمه تشجيع بعض المعلمين المتنورين علي تنظيم دروس خصوصية، بالذات للتلاميذ والتلميذات، ويبدأ من اهتمام الاباء والامهات بالاطلاع علي مايتلقاه ابناؤهم في المدرسه ومحاولة تصحيح فهمهم للمواد الدينيه. كذلك مسألتا الزي العسكري للتلاميذ وحجاب تلميذات مرحلة الاساس اللتان تهيئان أذهان ونفسيات الاجيال الجديده للتدجين، تصلحان كموضوع لنشاط فردي او أُسري او جماعي من داخل او خارج مجالس الاباء/ الامهات.
( 3 ) البيان بالعمل .. كيف ؟
صياغة الاستراتيجيه علي هذا النحو الذي يفسح مكانة خاصة للاصلاح التعليمي والمجتمع المدني يزيل العقبة الكبري امام فعالية جهود المعارضه تجاه كافة القضايا التي تتبناها مجتمعة ومنفرده في اطار صراعها مع حكم المؤتمر الوطني- الاسلامي ( التحول الديموقراطي، تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي، صيانة الوحدة الوطنيه، الخ.. الخ.. ). فغياب التفسير المقنع لمصدر ضعف فعالية العمل المعارض وكيفية إزالته دفع معظم كوادر الاحزاب والناشطين السياسييين والثقافيين والنقابيين الذين يشكلون عصب حركة التغيير والمعارضه، للانصراف الي شئون الحياه اليوميه واخرون الي الحركات الاقليميه والاهتمامات الادبيه، محملين القيادات مسئولية الفشل المتكرر. والشاهد هو ان هذه النوعية من الاوساط بالذات، حزبية ولاحزبيه، تتمتع بخاصيتين حاسمتين فيما يتعلق بأحياء العمل المعارض بمختلف اشكاله هما : التأهيل اللازم لاستيعاب صحة هذا التفسير وتقدير جدواه في صيانة جهودها وتضحياتها من الاهدار مما سيدفعها لمعاودة الانخراط في العمل العام، والثاني هو كونها تشكل الحلقة القيادية للجمهور الواسع تعبئة وتنظيما. بهذا المعني الملموس والمحدد يعتبر مجرد إعادة تأسيس استراتيجية المعارضه بإدماج هدفي الاصلاح التعليمي والمجتمع المدني والعلاقة بينهما في صلبها انطلاقا من الفهم الصحيح لجذر الازمه، مفتاحا لباب توظيف الطاقة الابداعية لهذه الشريحة النوعيه من النخب السودانيه في خدمتها بتوليد الافكار ومفردات خطة العمل اللازمه لذلك ثم تنفيذها واستنهاض المجتمع والجماهير.
ومع قناعة صاحب هذه الورقه بأمكانية إنجاز مفردات برنامج الاصلاح التعليمي المشار اليه واسهامات المجتمع المدني الهدف- الوسيله، فأن ماتقوله الفقرة السابقه ضمنا هو ان ثبوت عدم صحة هذه التوقعات لاينفي امكانية تنامي قدرات المعارضه عموما بأعتبارها نتيجة منطقية وعمليه لارتفاع معنويات النخب القائده الناجم عن وضوح الطريق نحو بناء نظام سياسي ديموقراطي قابل للحياه وللمرة الاولي في تاريخ المعارضات السودانيه. ليس معني ذلك ان الخط البياني لمسار المعارضه بقوة الدفع هذه سيخلو من التعرجات هبوطا وصعودا. هذا ضد منطق الواقع حيث الازمة العامة متشعبة الجذور متراكمة الطبقات مما يخلق تعقيدات بنفس المستوي في التطبيق العملي تؤدي للفشل والهزائم في بعض المعارك مع القوي والمصالح والعقليات المتكلسه حول نظام المؤتمر الوطني (الاسلامي) ولكن الحصيلة النهائيه ستكون ايجابيه قطعا لان سلامة الخطوط العامه للاستراتيجيه تعني ان الاخطاء ستكون محصورة في الخطوط الثانويه مما يسهل معالجتها. علي هذا فأنه سيكون ضد منطق الواقع ايضا بقاء قوة الدفع محصورة في حيز التأثير الايجابي لوضوح الطريق علي المعنويات لان الحراك الذي ستولده زائدا امكانية اكتشاف الاخطاء وتصحيحها، سيميل بميزان القوي السياسي لمصلحة المعارضه تدريجيا الي حد او اخر بما يمكنها من تحقيق نجاحات في بعض الجوانب لاسيما تلك التي تركز عليها الاستراتيجيه، ولكن ايضا في القضايا الاخري المطروحة علي اجندة المعارضه.
علي المدي الزمني المناسب، أستمرار هذا الميل سيولد ديناميكية دفع ذاتي تشكل في حد ذاتها عنصر زيادة لمعدل الميل، تقود الي التحول الديموقراطي المستدام، أي الذي ستزول فيه ليس فقط رموز وهياكل الانظمة الانقلابية الدكتاتوريه، كما حدث بعد سقوط نظامي انقلاب نوفمبر 58 ومايو 69، وانما أيضا عوامل إعادة انتاجها ممثلة في جفاف منابع الوعي الديمواستناري نخبويا ومجتمعيا. إذا قبلنا حيثيات الاستراتيجيه ( العلاقه بين الديموقراطيه والاستناره اوروبيا وسودانيا وعوامل تآكل الاخيرة لدينا) فأن المسار الاستراتيجي الذي تقترحه الورقه، او بديل اومكمل له شريطة التزامه بحيثيات الاستراتيجيه، هو المخرج الوحيد من الازمه العامة التي تنخر الجسدالسوداني وطنا ودولة، والاخطر من كليهما، مجتمعاً. من هنا فأن اعتراضا يتصل بطول الفترة الزمنيه التي ستستغرقها الاستراتيجية يكون غير ذي موضوع فضلا عن انه غير صحيح تماما. لقد جربنا المسارات الاخري القائمة علي المواجهة العنيفة ثم السلمية بلا ترافق مع خطوط عمل تعالج جذور قبضة النظام بالقدرالممكن من موقع المعارضه وانتهينا، ليس فقط الي مشارف الكارثه،´وانما الي بقاء وتعاظم مسبباتها. لذلك فأن الاستراتيجية التي تقوم علي استكمال هذا النقص الخطير ستختصر الزمن ايضا وذلك بمعنيين . المعني السلبي يتمثل في ايقاف إهدار الزمن، الضائع منذ عام 2000 علي الاقل، عنما قبلت المعارضه بالحل السياسي دون ادراك موجبات نجاحه فبقيت الجهود الكبيرة التي بذلتها بعض قياداتها وتضحيات الكوادر والجماهير دون مردود.اما الايجابي فهو ان اي انجاز تحققه المعارضه سيكون خطوة نحو نجاحات متواليه ومتعاظمه لانه سيكون من صنع قوي حيه تزداد كما وكيفا بأضطراد. الجسد السوداني الفاقد للمناعه فغزته الامراض التي هدت هيكله سيبدأ في توليد الاجسام المضاده ، وبقدر الجهد الفردي والجماعي الذي سيبذل لحقن هذا الجسد، وبالاحري العقل النخبوي الذي يتحكم فيه، بالمصل المضاد تكون سرعة ايقاف تغلغل المرض ومن ثم استرداد العافيه.
في خضم الحراك المتوقع أقترابا من وضع التحول الديموقراطي علي هذا النحو فأن مصير نظام المؤتمر الوطني- الاسلامي سيتقرر، علي الارجح، وفق واحد من سيناريوين. الاول هو بقاؤه كحزب وفق حجمه الحقيقي كبقية الاحزاب سواء في الحكومة، منفردا او متحالفا مع حزب اخر،او المعارضه. السيناريو الثاني الدخول في صراع-مواجهة ، وليس صراع تنافس سياسي سلمي، بدفع من الجناح المتشدد في المؤتمر الوطني ضد معارضة حيه مدعومه شعبيا مما سيطيح به عاجلا أو اجلا. ورغم الانطباع السائد بأرجحية هذا الاحتمال بناء علي درجة التمكين العاليه والمصالح والعقليات المتحجره فأن مايجدر الانتباه اليه ان قوة الجناح المتشدد الحاليه لاتعود الي قوة النظام الذاتيه فقط وانما الي ضعف العمل المعارض وهو عنصر سيزول بالتدريج وفق هذه الاستراتيجيه. أضف لذلك ان المؤتمر الوطني هو، بقدر ما، تحالف بين ( الحركة الاسلاميه ) وفئات متعددة الخلفيات والدوافع يجمعها عدم الانتماء الي هذه الحركه. هذه التحالفيه تشكل وضع خلخله بالامكان في تركيبة حزب المؤتمر يمكن ان يصبح واقعا مع نمو قوة الطرف المعارض في المعادلة السياسيه. الي جانب ذلك الحركة الاسلامية اضحت منذ مده مواجهة بتحد من داخلها يتعلق بأسسها الفكرية والايديولوجيه من قبل تيار نقدي يتمثل في كتابات عدد من مفكريه، ربما كان الاخطر عليها من غيره لانه ليس تحديا سياسيا سطحيا كما هو الحال مع إنشقاق" المؤتمرالشعبي ". هذه الاعتبارات وغيرها ترجح عدم حتمية سيناريو المواجهه- الصراع مدعومة بحقيقة ان البيئة العربية والافريقية والدوليه لاتشجع علي قيام نظام مغرق في الدكتاتوريه مثل النظام الذي سيتمخض عنه بالضروره انتصار تيار التشدد. علي اية حال مهما كانت السيناريوهات فيما يتعلق بمصير النظام فأن المعارضه، وتاليا البلاد بأجمعها، ستكون في وضع افضل كثيرا للتعامل مع ماسيحدث إذا ما أقدمت علي مراجعة جذريه لاستراتيجية عملها سواء علي الخطوط المقترحة هنا او غيرها.
* مدخل لمفهوم الدولة التي تقوم على التعاقد الاجتماعي بين الأطراف والشركاء في الدولة القومية، مع مقدمة لنشأتها في عصر التنوير الأوربي الذي واكب فجر الرأسمالية وصعودها.
نشأ مفهوم العقد الاجتماعي في صورته الحالية، كتطور طبيعي للفكر الفلسفي الذي كان سائداً في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لوصف الأوضاع السياسية للمجتمعات الأوربية. هذا المفهوم أتى بحلول ناجعة للصراعات القائمة آنذاك في أوروبا، فهذه الأفكار جعلت من مجتمعات النزاعات، أن تتحول إلى مجتمعات المجتمع المدني المتحضر. إن مفهوم العقد الاجتماعي، الذي يعني في معناه العام، إبرام اتفاق بين الناس الذين جمعتهم رقعة جغرافية محددة، بموجبه يتحدون ويكونون هيئة معنوية لإدارة الإرادة العامة. هم يسمونها دولة، يصبحون رعاياها ومواطنون فيها، يتساوون في الحقوق والواجبات.
ففي بحث لتطور مفهوم العقد الاجتماعي، يمكن أن نستخلص هنا بعض آراء فلاسفة تلك الفترة. فنجد أن الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679م) يقول "أن سلب الحريات من الناس والصراعات" التي كانت موجودة في عهده، والصراع في إنجلترا و"علاقة الملك بالبرلمان ثم علاقة الدين بكل من المجتمع والدولة، شكلت الأرضية للتفكير في قيم الحرية." فيقوم ويصف الناس "بأن معظمهم يعتقدون أنهم أسمى من الآخرين، وهم يتصفون كذلك بغرور باطل. وحقيقة الأمر أن معظم الناس متساوون في القدرات الجسدية والعقلية". وهذا يتطلب الفهم العميق العقلاني والإيمان الراسخ بأن طبيعة العقد الاجتماعي هو ما يجب أن يفهمه الناس بأنه العامل المشترك الأساسي الذي يقبله الكل كأساس للحريات والحقوق المنظمة للمجتمع.
من هنا فإن العقد الاجتماعي في معناه العام، هو اتفاق مجموعة من الناس من التنازل عن حريتهم الطبيعية للإرادة العامة دون أن يتركوا حرياتهم. وعندما تُنتزع منهم حرياتهم الطبيعية تقوم الثورات التي تقود في النهاية إلى العقد الاجتماعي أو الاتفاق لصالح الإرادة العامة، أي إنشاء الدولة برضاء الجميع. ويذكر توماس هوبز، كيف أن الحروب الأهلية في إنجلترا وثورة البرلمان بقيادة أوليفر كرومويل، أدي إلى إعدام الملك شارل الأول في العام 1649م، كما تسببت تلك الثورة الإنجليزية في قيام ثورة مماثلة في فرنسا أدت بدورها إلى إعدام الملك لويس السادس عشر في فرنسا.
في قراءة أخرى للفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704م)، إذ يصف حالة الطبيعة "بأنها الحرية التامة التي يكون للناس فيها الحق في تنظيم أفعالهم والتصرف في ملكياتهم، والميل إلى أشخاصهم على نحو ما يرونه مناسباً لهم داخل الإلتزام بقوانين الطبيعة - الذي يوحي بالنظام العقلاني لوجودنا - دون الحاجة إلى الإعتماد على إرادة أي إنسان آخر". وقانون الطبيعة هذا عند جون لوك، يهدف إلى أن يُعلِم الناس بشكل أساسي على أن لا يؤذي فردٌ فرداً آخراً.
هنا يؤكد لنا جون لوك، أن الدولة في المجتمع المدني (طبيعة العقد الاجتماعي)، "تنشأ من اتفاق جماعي بين الناس على أن يكون الحكم فيها للأغلبية. لذا فإن "حاجة المجتمع المدني إلى السلطة الحاكمة أو الدولة، هي الحاجة للمحافظة على الحياة والحرية والملكية، وهي حقوق مهددة بالتعدي". لهذا فإن غاية القانون هي الحفاظ على حرية الإنسان. والعقد في طبيعته عند جون لوك، هو تنظيم للحرية بالقانون. وقيام المجتمع المدني هو دلالة الحرية المنظمة. وبالتالي فإن مصدر قوة الدولة، نابع من العقد أو الاتفاق، الذي يقيد الحكومة ويفصل السلطات ويقر حق الثورة، عندما تخرج الحكومة عن العقد أو الاتفاق.
وفي فرنسا، نجد أن الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778م)، يرى في العقد الاجتماعي على "أنه نابع من عدم المساواة السياسية، إذ تمثل الامتيازات التي يتمتع بها البعض على حساب الآخرين. فالناس يعيشون الحاضر فقط، ولا يمتلكون أية خطة عقلانية للمستقبل". وبالفعل هذه هي حالة النخب السودانية الحاكمة، خاصة أهل المؤتمر الوطني. ويطلق روسو السؤال التالي، "كيف تستطيع السياسة الفاسدة أن تتحول إلى سياسة جديدة للفضيلة المدنية؟" ويجيب فيقول " يمكن من خلال شكل التربية المدنية التي تعلم الأفراد واجباتهم. وتعلمهم جعل حب وطنهم في المقدمة". وهذا التوجه نحو التربية الوطنية هو الذي يُؤسس الفكرة المحورية أو الفكرة الرئيسية للعقد الاجتماعي الجديد عند روسو.
وهكذا فإن أفراد المجتمع يريدون مثل كل الآخرين الخضوع للقواعد والأهداف المشتركة للنظام أو التنظيم." فهنا تكمن الميزة التي يجنيها الأفراد بعمل هذا، إذ "أن كل شخص يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد". بمعنى أن كل شخص أصبح محكوماً بفكرة الخير المشترك ذاته، الذي يرى بإعتباره مفيداً لكل الناس، بما فيهم بطبيعة الحال نفس المرء أو نفس الفرد، فيدخل كل شخص في التوجه الأسمى للإرادة العامة. وعمل الإرادة العامة هنا هو أساس حياة المرء. فالإرادة العامة بالنسبة لروسو هي دائماً حق، وهو قناعة تتجسد في ما تطالب الآخرين ليفعلوه لك، يجب أن تفعله لهم.
وفي موقع آخر، يتحدث روسو عن مستوى الوعي السياسي المتقدم، الذي يجب أن يتوفر لجمهور الشعب، فيقول "يعتمد تعضيد المساواة السياسية على إمكانية المجتمع الذي فيه يكون المواطنون قادرين على التفكير بالقضايا العامة باعتبارهم يناقشون المسائل أو القضايا المواجهة لهم، وعندما لا يملك الناس هذه القدرة تتحول السياسة إلى صراعات المصلحة الخاصة باستخدام المنتصرين القوة العامة لتشجيع أهدافهم الخاصة على حساب الآخرين." على ضوء هذا يجب أن نقر بضرورة الإثراء في نقاش المسائل الخلافية باسلوب حضاري، لنصل إلى تفاهم مشترك ومن ثمّ سلام دائم، الذي هو مقصد فكر العقد الاجتماعي.
في عصرنا هذا، ليس بالضرورة أن يطبق مفهوم العقد الاجتماعي باتباع نفس الخطوات التي تمت في أوروبا في القرون الماضية. الذي يهم، بل والضروري أن تجتمع كل شعوب السودان المختلفة في مؤتمر جامع وبإرادتهم الحرة، يمثلون أقاليمهم المختلفة يعبرون عن مصالحهم، ففي ذلك يؤسسون على إجابة سؤال محوري، وهو ما هي الشروط التي تجعلنا أن نعيش مع بعض في دولة واحدة؟. والإجابة على ذلك هي، القيام بإبعاد كل المسائل الخلافية من العمل العام. وهذا يعود إلى طبيعة الإنسان الاجتماعية حيث أن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره من أفراد البشر الآخرين، فلا بد لهم أن يتعاونوا من خلال تفاعلاتهم الاجتماعية المختلفة.
* طبيعة نشأة الدولة السودانية، النشأة ذات الطبيعة الكولاجية (أقطع وألصق) والقسرية للدولة القومية في السودان على يد قوات محمد علي باشا 1821 التي إرتكزت على الضرائب والمكوس ونهب الموارد الطبيعية والبشرية *ب* – الدولة المهدوية ذات الطابع الجهادي الرسالي *ج* دولة الحكم الثنائي الاستعمارية – التي شقت طريقها للوجود بتخليق المؤسسة السودانية التي تخلقت من البيوتات الطائفية للأنصار والختمية والهندية تحيط بها الطرق الصوفية في تحالف مع زعماء العشائر في تواشج متين مع الخدمة المدنية وقوة دفاع السودان – شكلت شرائح وفئات وطبقات المؤسسة السودانية التي برع الحكم الثنائي في بنائها وتنميتها ورعايتها بالحذف والإضافة والترميم والطلاء وتنتمي في الغالب الأعم بإستثناء بعض رجالات الإدارة الأهلية إلى نخبة نهر النيل شكلت بتحيزاتها الإقليمية والثقافية والدينية واللغوية القوة الاجتماعية التي ورثت التركة الاستعمارية وعلى وجه الدقة الدولة والثروة في السودان.
* عجز النخب الحاكمة والتي ورثت السلطة السياسية والاقتصادية من المستعمر في بناء الدولة الوطنية، وذلك لتبنيها برنامج محكم لإقصاء الآخرين، ليس فقط كيف تحكم البلاد لكن أيضاً بمنّ. إذ حصرت التنمية والخدمات ذات الطابع المحدود في المثلث الاستعماري القديم دنقلا – سنار - كوستي وجعل كل السودان هامشاً له. وفي موقع آخر فشل أيضاً النخب الحاكمة في إدارة التفاوض الوطني للتوفيق بين مطالب الأقاليم التي بدأت منذ العام 1947م في مؤتمر جوبا، مما أدى إلى أن نقيضي الطلب والرفض قد أوصلا السودان إلى انفصال الجنوب.
وإذا كان من أهداف وغايات الحكم البريطاني التحكم في المواد الخام وفي مقدمتها توفير القطن طويل التيلة لمصانعه وراء البحار وفتح أسواق السودان لبضائعه وكل ذلك بتكلفة إدارية زهيدة فلم يكن للنخب النيلية غاية أبعد من الهيمنة على الدولة للإثتئثار بالثروة وتوزيعها على فئاتها التي ظلت في سياق نزاع الاستئثار تضيق حلقاتها حتى وصلت الجبهة القومية الإسلامية التي أقصت كل الفئات والشرائح والطبقات التي لا تمت إليها ايدولوجياً وقرابياً ومناطقياً الشئ الذي فجر الأزمات والحروب وأفضي إلى انفصال الجنوب والإنهيار الاقتصادي الشامل.
* وبما أن الدولة السودانية قد فشلت، ليس من العقل في شئ إجراء إصلاحات تنموية وتقديم خدمات صحية وتعليمية في إطار دولة الاستقلال التي ورثت من الاستعمار لذلك يتمثل المدخل السليم في إعادة هيكلة الدولة بتعاقد اجتماعي جديد يجسد التعدد القومي – التعدد الاثني – التعدد الثقافي - التعدد الديني – التعدد اللغوي (تعني إعادة هيكلة الدولة بالضرورة – إعادة بناء كل القوات النظامية ومؤسسات الخدمة المدنية) وفي سياق هيكلة الدولة وإعادة توزيع الثروة يصاغ المشروع السياسي الشامل --- الذي تتكون مفرداته من التنمية المتواصلة – الديمقراطية التوافقية – اللامركزية - حماية البيئة – الهوية السودانية – الحريات والحقوق الأساسية للإنسان – الفصل في مسألة العلمانية (الفصل بين الدين والعرق والثقافة والجهة عن الدولة).
* مفهومي حق تقرير المصير والعقد الاجتماعي، وأيهما يعود بفائدة أفضل وأشمل للجميع؟.
مما تقدم عن طبيعة نشأة الدولة السودانية، نجد أن الإخوة الجنوبيين، في مسعاهم لتماسك وحدة البلاد من التفكك المحتمل، ومن منطلق قناعتهم بوحدة وتماسك البلاد التي صنعها الاستعمار، قد بادروا في تقديم حلول قابلة للتطبيق وذلك بمطالبتهم بنظام فيدرالي في إطار السودان الواحد، كان ذلك في مؤتمر جوبا الأول الذي انعقد في 12 يونيو 1947م. بالطبع لم تستجيب النخبة الحاكمة في المركز التي ورثت السلطة من المستعمر لذلك المطلب، بل تعنت في مواصلة تطبيق برامجها لإقصاء الآخرين، ذاك البرامج المجسد في ليس فقط كيف تحكم البلاد لكن أيضاً بمّنْ. هذا البرامج الإقصائي جعل مشروع دستور سنة 1958م يتجاهل مطلب النظام الفيدرالي للحكم في السودان مما جعل عضو البرلمان فرانكو وول قرنق من الجنوب أن يسرح ب"إننا نقف الآن على شفا حفرة، وموضوع الفدريشن موضوع حساس. وإذا لم يُستجب له فلربما يطلب الجنوبيون أشياء أخرى لم تكن هناك حاجة لها". وفي مشهد آخر يعيد مولانا/أبيل ألير نفس رفض الجنوبيين لمشروع آخر، هو دستور سنة 1968م، ويصفه بأنه قائم على التفرقة الدينية والعنصرية وقال "أن مشروع الدستور ليس مقبولاً للجنوب لأنه يفرق بين المواطنين على أساس الدين والعنصر، فهو دستور إسلامي لأمة عربية". الصراع السياسي هذا، بين الطلب والرفض أجبر الحكومة السودانية بأن توافق على إقرار حق تقرير المصير للمدريات الجنوبية الثلاثة في اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م، وبموجب هذه الاتفاقية تم تفكك السودان إلى دولتين في التاسع من يوليو العام 2011م.
في هذا المنحى نود أن نقارن بين مفهومي حق تقرير المصير والعقد الاجتماعي. أولاً، حق تقرير المصير، هو مصطلح في مجال السياسة الدولية والعلوم السياسية، يشير إلى حق كل مجتمع ذات هوية جماعية متميزة، مثل شعب {الميدوب} أو مجموعة عرقية متميزة مثل {النوبة في منطقة جبال النوبة} أو غيرهما، بتحديد طموحاته السياسية، ومن أجل تحقيق ذلك يتبنى المجتمع المعني، النطاق السياسي المفضل والمناسب لبيئته في إدارة حياة المجتمع اليومية. يتم ممارسة هذا الحق بحرية تامة دون تدخل خارجي أو قهر من قبل أية شعوب أو منظمات أجنبية. وبالتالي فإن حق تقرير المصير ومن منطلق السياق القانوني، هو مبدأ في القانون الدولي الذي أقره ميثاق الأمم المتحدة، وفي ذلك أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها. هنا نلاحظ أن إحدى مواد القانون الدولي تنص على أنه "لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذاتي". الجدير بالذكر أن مفهوم تقرير المصير، قد تجسد أولاً في إعلان الاستقلال الأمريكي في العام 1776م، ثم في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان في العام 1789م.
ثانياً، ومن جانب آخر فإن مفهوم العقد الاجتماعي كما سبق، يعني في معناه العام، إبرام اتفاق بين الناس الذين جمعتهم رقعة جغرافية محددة، بموجبه يتحدون ويكونون هيئة معنوية لإدارة الإرادة العامة، أي الدولة، يصبحون رعاياها ومواطنون فيها، ويتساوون فيها في الحقوق والواجبات. هذا الاتفاق يقضي تماماً على الصراع الاجتماعي والسياسي الذي يسببه مزاعم بعض الناس الذين يعتقدون أنهم أسمى درجة في السيادة من الآخرين، بينما في حقيقة الأمر أن معظم الناس متساوون في القدرات الجسدية والعقلية. لهذا فإن حاجة المجتمع إلى السلطة الحاكمة أو الدولة، هي الحاجة للمحافظة على الحياة والحرية والملكية، وهي حقوق مهددة بالتعدي، والعقد في طبيعته هو تنظيم للحرية بالقانون. فالمسائل الخلافية المزمنة في السودان، من إقحام الدين في السياسة، أو تحديد عرق بعينه لإدارة شئون الدولة، أو تفضيل ثقافة محددة لتهيمن على بقية الثقافات، أو إقرار جنس واحد لإدارة الدولة – كأن تقول أن المرأة لا تصلح لقيادة الدولة، وهكذا. مثل هذه المسائل هي التي تسبب الصراعات والإقتتال بين الناس أفراداً وجماعات، لذا تكمن حلولها وبشكل جذري في عقد اجتماعي متفق عليه من كافة المجتمعات السودانية.
مما سبق واضح جداً بأن العقد الاجتماعي أوسع منظوراً من تقرير المصير، إذ أنه يمثل أهم النظريات التي ظهرت حتى الآن بشأن تأسيس الدولة، لهذا فإن الدول التي نشأت عن طريق ممارسة حق تقرير المصير وانفصلت عن الدولة الأم، مثل دولة جنوب السودان، هي أيضاً في حاجة ماسة لعملية العقد الاجتماعي، ليتمكن كل فئات مجتمع الدولة الحديثة من ممارسة حقها السيادي في تفصيل دولتها.
ففي ظل العقد الاجتماعي يصل الناس إلى قناعة راسخة بأن حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم مهددة بالسلب، وأن حمايتها تكمن في الاتفاق الذي يحمي هذه الحريات والحقوق بالقانون. من هذا المنطلق يمكن أن تقوم عدد من الشعوب المستقلة أو حتى دول قائمة بذاتها بإجراء عقد اجتماعي بينها وذلك في سعيها لإنشاء دولة واحدة جديدة. الشاهد في الأمر أن هذه الشعوب تصل إلى قناعة أن وحدتها مسألة حتمية لحماية مصالحها الاقتصادية والأمنية على وجه الخصوص. وإذا توقفنا عند تجربة السودان الحالية، يبدو جلياً أن حكومة الجبهة الإسلامية الحالية قد سارعت وأوصلت جميع فئات الشعب السوداني في طول البلاد وعرضها، إلى أن سبل عيشها على المستوى الشخصي محددة بالإنقراض، وأن سلامة أمنها على المستوى الفردي أصبحت غير متوفرة في الريف والحضر على حد سواء. حالة السودان هذه شبيهة لما حصلت في أوروبا في عصر فلاسفة التنوير مما قادت إلى إقامة دولة التعاقد، ومن ثَمّ الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية. لهذا فإن الظرف الحالي في السودان أنسب من أي وقت مضى لإقامة دولة التعاقد الاجتماعي، إذ أن مثل هذه العملية من شأنها أيضاً أن تستصحب معها بوادر رتق النسيج الاجتماعي السوداني الذي بات يتفكك يوماً بعد يوم.
من جانب آخر، يعمل تقرير المصير على تصحيح أوضاع سياسية وإدارية غير متفق عليها من الجميع في دولة قائمة (السودان نموذجاً). وتصحيح الأوضاع هذه، تحتمل إنتاج عدة نتائج عند ممارسة حق تقرير المصير، من ضمنها (أ) الاستقلال التام، أي إنشطار القطر الواحد إلى دول عدة فيصبح كل قطر مستقل تماماً عن الآخر، كما حصل في السودان في شهر يوليو العام الماضي. وهناك أيضاً احتمالات أخري منها، (ب) أن تكون النتيجة في شكل اتحاد فيدرالي/كنفدرالي، أو (ج) حماية دولية لإقليم ما في إطار الدولة الموحدة. مثال لذلك، وإستناداً على القانون الدولي الخاص بحماية الأقليات، أن يطلب شعب منطقة جبل ميدوب الواقعة في أقصى شمال غرب إقليم دارفور، حماية من الأسرة الدولية بمقتضاها تطاح لهم المجال في الحفاظ على الإرث الثقافي الموروث، وتسمح لهم بتحقيق تنمية محلية على النحو الذي يرونه مناسباً لمنطقتهم. كما يحق لهم أن يشاركوا في إدارة شئون الدولة على المستوى القومي. ومن الاحتمالات الأخرى (د) أن تقام وحدة كاملة بين المركز والأقاليم الحاملة للسلاح – مثال دارفور وكردفان وجنوب النيل الأزرق والشرق وأقصى الشمال. على أية حال، فإن الهدف الرئيسي في ممارسة حق تقرير المصير أن يعم السلام لهذه المجتمعات، سواءً أبقوا في دولة واحدة أو تفتتوا إلى عدة دول. لكن يبقى القاسم المشترك بين مفهومي العقد الاجتماعي وتقرير المصير، أن أفعالهما هي من صنع شراكة كل الناس في البلد/الإقليم المعني. والهدف الأساسي منها هو تنظيم حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية على النحو الذي يرضونه بمطلق حريتهم دون أن تفرض عليهم جهة ما أشياء خارجة عن إرادتهم.
* ياتي الدستور لإقرار ما تم الاتفاق عليه من قبل كل الأطراف المعنية والشركاء الأساسين في دولة التعاقد.
وهذا الدستور يفسر مفردات دولة التعاقد، والتي تشمل الدولة، النظام السياسي، الثروة، السلطة، مجتمع دولة التعاقد، الديمقراطية السياسية والإدارية، .... إلخ.
المقدمة:
الحالة التي وصل إليها السودان اليوم تجعلنا نقول أننا في السودان لا نجيد قراءة دروس التاريخ القريب وبالتالي نفتقر لقاعدة نموذج تماسك الوحدة. لهذا نود أن نعيد إلى الأذهان دروس الماضي المريرة وما قادت إليه الأحداث التاريخية في العقود الماضية، من عدم استكمال بناء الدولة السودانية. بل أدت تلك الصراعات إلى إنشطار الدولة السودانية ذات البناء الهش إلى دولتين، وقد يزيد. لذا سيكون التركيز هنا في إثبات عدم جدوى منهج إقصاء الآخرين الذي أسسه وينفذه بدقة متناهية نخب الشمال النيلي الحاكمة للبلاد منذ الاستقلال، وهو "ليس فقط كيف تُحكم البلاد لكن أيضاً بمّن". ومن بعد، هل ثمة حلول في الأفق يمكن أن تنقذ البلد من الأزمة المفتعلة التي هو فيها؟
بدايةً قد تعني الدولة في العرف الدولي، بأنها الجسم الإعتباري الذي يجمع عناصر (أ) تجمع بشري، (ب) إقليم يرتبط به التجمع البشري، (ج) سلطة توجه المجتمع، (د) نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي وقانوني يتمسك التجمع بتحقيقه. فالدولة بمعناها الواسع هي تجمع بشري (شعب) مرتبط بإقليم محدد (وطن) يسوده نظام اجتماعي وسياسي وقانوني (دستور) موجه لمصلحة مشتركة، وتسهر على المحافظة على هذا التجمع سلطة مزودة بقدرات تمكنها من فرض النظام ومعاقبة من يهدده بالقوة (سلطة). بهذا المفهوم نشأت الدولة السودانية القديمة أول مرة كصنيعة الاستعمار التركي المصري بحدودها الجغرافية الحالية، في العام 1821م (بما فيها جمهورية جنوب السودان التي انفصلت في 9/7/2011م). فالدولة السودانية إذاً، هي نتاج لإخضاع الممالك والسلطنات الت كانت دولاً قائمة بذاتها بقوة السلاح، ومنذ ذلك الوقت حمل إسم السودان. ولم يكتمل رسم حدود هذه الدولة إلا في العام 1932م عندما تمكنت إدارة السودان البريطانية من أن تبسط سيطرتها التامة على قبائل الدينكا والنوير والتبوسا في الجنوب.
الصراع بين عناصر الدولة الواحدة:
نشأة الدولة السودانية المصتنعة هذه، حملت معها منذ البداية بذور النزاعات في ماهية هذه الدولة الجديدة، فظهرت بوادر الصراع بين مكونات الدولة المنشأة حديثاً، تمثلت في أول عهدها بعدم رضى شعوب الدولة الحديثة (التجمع البشري) عن المُستعمِر (أي سلطة المستعمر). ومع وتيرة الأحداث المتلاحقة، تطور الصراع ليشمل السلطة المركزية الوطنية ضد الأطراف – وهذا يشمل التجمعات البشرية الطرفية ومعها الرقعات الجغرافية، والذي يمكن أن يطلق عليها تهميش البشر والموارد الطبيعية معاً. لهذا يمكن أن نخلص بأن الصراع الدائر اليوم بين مكونات الدولة السودانية، هو في مجمله صراع الثقافات وسياسات الهيمنة، وذلك للغياب المتعمد للعنصر أو للركيزة الرابعة للدولة أي النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني ليتمسك به التجمع البشري الحديث بتحقيقه، بمعنى آخر غياب دستور وطني ليستوعب كل مفارقات الدولة الحديثة. فهذا شيئ غير طبيعي أن نستمر في مواصلة هذه الصراعات بهذه الوتيرة بعد أكثر من نصف قرن من عمر السودان المستقل، مما يجعلنا نقول أن بناء الدولة السودانية لم يكتمل بعد.
في هذا المنعطف يمكن أن نسوق بعض من الأحداث والسياسات المبرمجة، التي أدت إلى خلق هذه الصراعات وتأجيجها على مر العقود الماضية، وكيف أن القائمين على أمر إدارة البلاد قد تجاهلوا هذه الأحداث المدمرة، بل في مواقع أخرى سعوا إلى صناعتها. وبالتالي الذي يعنينا هنا من أمر هذه الصراعات في شكلها الأساسي، هو صراع عنصرين من عناصر الدولة وهما السلطة التي توجه المجتمع (السلطة المركزية) والتجمع البشري (الشعب)، وفي قناعتنا أن الصراع بينهما قائم على عدم التوفيق في خلق نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي وقانوني (دستور) لتسيير شئون الدولة بشكل وطني مستدام. في البدء يمكن أن نقول أن الاستعمار قد ساهم بقدر كبير في صناعة هذه الصراعات. فدخول الاستعمار من بوابة السودان الشمالية أدى إلى تركيز التعليم والتدريب الحديث لإدارة الدولة في الشمال النيلي، أضف إلى ذلك سياسة المناطق المقفولة التي حرمت مناطق واسعة من البلاد من نيل التعليم الحديث ومن الإنفتاح على العالم الخارجي. ويدل على ذلك أنه حتى العام 1945م لم تتخذ حكومة السودان الاستعمارية رأياً قاطعاً، حول مصير جنوب السودان، هل يُلحق بالشمال أم يُضم إلى إحدى دول شرق أفريقيا؟
ولتعزيز ما ذهبنا إليه، يجدر بنا أن نسرد عدداً من الأحداث التاريخية، التي توضح لنا كيف أن الصراع بين مكونات الدولة السودانية (السلطة والشعب) بدأ سلمياً ثمّ تطور عسكرياً وكيف أن النقيضين – المطلب والرفض - قد أوصلا القطر السوداني بأن ينشطر إلى قطرين مستقلين. وتأسيساً لتأكيد بعض الصراعات، نجد أن من ضمن الأحداث الموثقة، انعقاد مؤتمر جوبا الأول في 12 يونيو 1947م. الذي يعتبر أول تجمع سياسي جامع تشارك فيه ألوان الطيف الجنوبي في أرض الجنوب. فكان من ضمن مطالب الجنوبيين (الشعب) في هذا المؤتمر، المطالبة بنظام فيدرالي في إطار السودان الواحد، ولكن تشدد الشماليون (السلطة) في رفض هذا الطلب، مستخدمين في ذلك أسلوب المخادعة، وفي ذات الوقت يبدو أن نفوذ نخبة الشمال النيلي بدأ ينمو ويقوى في إدارة شئون البلد. وعندما جاءت مفاوضات الحكم الذاتي للسودان حول تقرير المصير والاستقلال، في العام 1953م والتي كانت بين الشماليين والبريطانيين والمصريين، لم يحضرها أحد من الجنوب، لذا خلت من أي ضمانات تمسك بها الجنوبيون في مؤتمر جوبا 1947م.
لاحقاً تمّ تشكيل لجنة لتعديل الدستور في 29 مارس 1951م، وكان من ضمن أعضائها إبراهيم بدري الذي تحدث عن الوضع في الجنوب، فقال "أن التهميش لا يشمل الجنوب فقط، بل أيضاً سكان مناطق أخرى من السودان، من بينهم سكان جنوب الفونج وبعض سكان دارفور وجبال النوبة بمديرية كردفان". وبعد أن عرّف مناطق الهامش بهذا الشكل، تسآءل "أي ضمانات وضعنا من أجل استمرار الإستقرار وكفالة الحريات وحق تقرير المصير لأولئك الناس مع العلم بأن الرابط الوحيد بيننا وبينهم هو الفتح المصري للسودان؟" ومنذ ذاك التاريخ لم يجد من يستجيب لندائه الوطني هذا، مما يدل على تعمد النخب الحاكمة في إقصاء وتهميش الأطراف.
في 20 فبراير 1954م عين الحاكم العام للسودان أعضاء لجنة السودنة لم يكن من بينهم جنوبي واحد. وعندما تمت إجراءات السودنة، كان نصيب الجنوب ست (6) وظائف فقط من بين أكثر من 800 وظيفة تمت سودنتها. وأرفع وظيفة تقلدها الجنوبيون، كانت برتبة مساعد مفتش. ثم جاء قرار تقرير المصير (الجلاء) من البرلمان في أغسطس 1955م والذي إشترط فيه الجنوبيون للتصويت عليه، بقيام نظام فيدرالي يساير روح مؤتمر جوبا وبالطبع حصلت خديعة أخرى. تبع ذلك إجازة الدستور المؤقت في جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ في 31 ديسمبر 1955م الذي خلا أيضاً من ذكر الفيدرالية.
تكرار نقض العهود هذا، قاد إلى تمرد سريتين من الفرقة الإستوائية في توريت في 18 أغسطس 1955م، ويبدو أن الشرارة التي أدت إلى إنطلاقة الثورة المسلحة، هي الأوامر التي أعطيت للبلك رقم 2 بالسفر إلى الخرطوم للمشاركة في تكوين حامية للخرطوم، بعد جلاء القوات المصرية والبريطانية. لكن تعتبر خيبة أمل الجنوبيين من نتائج السودنة والخوف من سيطرة الشماليين، من أقوى أسباب التمرد. وبالرغم من أن الصراع السلمي قد تطور إلى ثورة مسلحة، لا تجد مطالب الجنوبيين وعلى رأسها النظام الفيدرالي أية استجابة، لهذا لم يرد في مشروع دستور سنة 1958م أي نص يحدد العلاقة بين المركز والإقليم. وخيبة الأمل هذه قادت عضو البرلمان فرانكو وول قرنق أن يرفض مشروع دستور سنة 1958م، وقال "إننا نقف الآن على شفا حفرة، وموضوع الفدريشن موضوع حساس. وإذا لم يُستجب له فلربما يطلب الجنوبيون أشياء أخرى لم تكن هناك حاجة لها". وبعد عقد كامل من الزمان، يعيد مولانا/أبيل ألير نفس رفض الجنوبيين لمشروع آخر، هو دستور سنة 1968م، ويصفه بأنه قائم على التفرقة الدينية والعنصرية وقال "أن مشروع الدستور ليس مقبولاً للجنوب لأنه يفرق بين المواطنين على أساس الدين والعنصر، فهو دستور إسلامي لأمة عربية".
وتيرة الصراعات هذه، بين المركز والهامش، لم تكن محصورة في الجنوب فقط، بل كانت تسير أيضاً وبأحجام مختلفة في أماكن أخرى من السودان. ففي دارفور، لم تقم المقاومة ضد المركز على أساس فكر سياسي مركزي موحد، كما كان الحال في الجنوب على النحو الذي رأيناه في الفقرات السابقة، لكنها قامت للتعبير عن عدم رضا الإقليم لسياسات المركز تجاهه، دون رؤية محددة لحل مشكلة التهميش في دارفور. ففي الجنوب تأسست المقاومة على أيديولجية الحكم الفيدرالي أو الانفصال. لذا سنلاحظ لاحقاً أن منهجية الصراع في دارفور، كانت غير منسقة. فتارةً ثورات مسلحة محدودة، وتارةً أخرى انتفاضات شعبية أو مقاومات سلمية لا يجمع بينها رؤية سياسية موحدة، إنما هي تعبيرات عن عدم رضى مواطني دارفور عن سياسات المركز التنموية، وهكذا دواليك، إلى أن استقرت الآن في الكفاح المسلح، وبهدف شبه متفق عليه، وهو المطالبة بإشراك أهل دارفور في السلطة. وأيضاً من المفارقات بين الحالتين، وجود تباعد زمني في تفاعلات المقاومة الدارفورية، مقارنةً بالتواصل الزمني السلس في المقاومة الجنوبية. ومن هذا المنطلق يمكن أن نرصد بعض الأحداث السياسية في دارفور، التي كانت تعبر عن الصراع السياسي ورفض هيمنة المركز على الإقليم. إبتداءً تنصل السلطان على دينار عن الاتفاق الذي تمّ بين دولته وحكومة المُستعمِر البريطاني آنذاك في السودان، مما أدى إلى غزو المُستعمِر البريطاني لسلطنة دارفور في العام 1916م وضمها قسراً للسودان. ومنذ ذاك الوقت قامت عدة ثورات ضد الوجود الأجنبي، منها في فترة الاستعمار، ثورة الفقيه/عبد الله محمد إدريس السُحيني في 26 سبتمبر 1921م في مدينة نيالا، والتي أُخمدت في حينها وقُتل قائدها في 4 أكتوبر 1921م. ثم جاء حرق العلم البريطاني في الفاشر (أبو زكريا) حاضرة دارفور في العام 1952م. وحسب علمي المتواضع لم أجد ما يثبت أن مثل هذا الفعل قد تم في مكان آخر من مستعمرات بريطانيا العظمى في ذاك الزمان، مما يدل على شدة رفض أهل دارفور للمُستعمِر، ومن جانب آخر يدل على الفهم الحضاري المتقدم للتعبير عن الرفض.
أما في فترة ما بعد الاستقلال، فقد شهد إقليم دارفور الكثير من الإحتجاجات والثورات ضد المركز، كانت أولاها قيام تنظيم اللهيب الأحمر العام 1957م بعد سنة فقط من الاستقلال، تعبيراً عن عدم التنمية في المنطقة. وفي ظل الصحوة الإقليمية في السودان، قامت جبهة نهضة دارفور بقيادة أحمد إبراهيم دريج العام 1964م، وهي تنظيم سياسي في ثوب مطلبي، فكان من أهدافها الأساسية مطالبة المركز بتوفير الخدمات الضرورية وإقامة مشاريع تنموية اقتصادية واجتماعية في الإقليم. لكن يظل وقف استيراد نواب البرلمان من الشمال إلى دارفور من أهم إنجازات جبهة نهضة دارفور. فكثير من الناس يذكرون المقالة الصحفية في إحدى صحف الخرطوم، والتي إشتهرت بعنوان "أم كدادة ما ذنبها؟" وهذه المقالة، كانت عن الخدمات الاجتماعية المتردية في تلك الدائرة، التي فاز فيها عبد الله خليل وأصبح رئيساً لوزراء السودان في حكومة ما بعد الاستقلال، وهو لم يزر المنطقة قط لا من قبل ولا من بعد الإنتخابات. ثمّ جاءت منظمة سوني العام 1966م وهو تنظيم تبنى نفس أهداف جبهة نهضة دارفور. ويشهد التاريخ أن قادتها كانوا يمثلون جُل ألوان الطيف الدارفوري. هؤلاء القادة كانوا جنوداً في الجيش السوداني والشرطة السودانية، الذين حاربوا في الجنوب وعادوا إلى دارفور وهم على قناعة تامة بأن حرب الجنوب لا هي أخلاقية ولا وطنية.
مرةً أخرى قامت ثورة الفاشر (أبو زكريا) العام 1981م، إحتجاجاً على تنصيب الطيب المرضي حاكماً على دارفور وهو ليس من أبناء دارفور بينما تمّ تنصيب بقية حكام أقاليم السودان من أبناء نفس الأقاليم. إنتفاضة أهل دارفور في الخرطوم العام 1988م استنكاراً لدخول القوات الليبية والتشادية إلى السودان والإقتتال فيما بينها في أرض دارفور. ثورة الشهيد داود يحيى بولاد العام 1991م، والترابي يتوعد إسلاميي المناطق المهمشة. "إن الإسلاميين من القبائل الزنجية صاروا يعادون الحركة الإسلامية". ثم ظهر الحدث التوثيقي الكبير وهو صدور الكتاب الأسود العام 2000م الذي يدل على تمرد إسلاميي دارفور ضد الجبهة القومية الإسلامية.
كل هذه الثورات والإنتفاضات والإحتجاجات السلمية التي جرت في دارفور، وفي أزمنة مختلفة، لم تحرك ساكناً السلطات المركزية لاتخاذ التدابير اللازمة لإحتوائها، أو حتى دراستها وفهمها، إلى أن قادت إلى قيام صراع مسلح ضد المركز، فكانت قيام حركة تحرير دارفور في العام 2002م والتي غيرت أهدافها ومن ثم إسمها في العام 2003م إلى حركة تحرير السودان، كما قامت في نفس الوقت حركة العدل والمساواة السودانية في نهايات العام 2003م.
وبينما الأزمة السودانية في تفاقم مستمر في سبعينات القرن الماضي، لاحت في الأفق بادرة أمل لحل المعضلة السودانية عندما تم التوقيع على اتفاقية أديس أبابا في العام 1972م، بين حركة تحرير السودان وجناحها العسكري أنيانيا الأول وحكومة النميري، والتي بموجبها أصدر النميري قانوناً جعل من المديريات الجنوبية إقليماً واحداً يتمتع بالحكم الذاتي الإقليمي، بل صادق على دستور سنة 1973م العلماني، الذي يعتبر دستوراً قومياً إذا ما تم الإستفتاء عليه ليتم قبوله من قبل كافة مكونات شعوب السودان. لكن نقض النميري هذا الدستور بنفسه بعد عقد واحد فقط من تصديقه له. ففي سبتمبر 1983م أصدر النميري عدداً من القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، من ضمنها تعديلات لأكثر من مائة من مواد الدستور لسنة 1973م. تجعل هذه التعديلات من السودان جمهورية إسلامية وتسند السيادة لله وتؤسس حاكمية الشريعة الإسلامية، وذلك بالنص على أنها المصدر الأساسي للتشريع.
ففي ظل نكوص العهود المتكرر، خاصة عندما أصدر النميري قراراً بتفتيت إقليم الجنوب الواحد إلى ثلاثة أقاليم، قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأصدرت مانيفستو وطني في 31 يوليو 1983م وانطلقت بشعار السودان الجديد مبشرة الشعوب السودانية بميلاد برنامج وطني للمعارضة الوطنية. خاضت الحركة الشعبية سلسلة من المفاوضات مع كل الحكومات المتعاقبة منذ ميلادها. جرت هذه المفاوضات في مدن نيروبي وأديس أبابا وكمبالا وأبوجا، انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير 2005م في منتجع نيفاشا (كينيا) بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية (حزب المؤتمر الوطني). وبموجب هذه الاتفاقية جرى إستفتاء عام في الجنوب في فبراير 2011م أظهرت نتائجه أن نسبة 98.83% من جملة الأصوات التي أُدلِيت كانت لصالح الإنفصال. نتيجة الإستفتاء هذه، دلالة قاطعة على مدى عمق الأزمة السياسية في السودان، وكأن الجنوبيون قالوا، وعلى مشهد من العالم، كفى للإستعمار الداخلي في بلادنا. لذا جاء الإنفصال في 9 يوليو 2011م، وهو يحمل في طياته تبريكات الشرعية الدولية.
وفي ظل تعنت نخب الشمال النيلي في مواصلة تطبيق سياسات الإقصاء، يتبادر إلى الذهن أسئلة كثيرة تحتاج لوقفة تأنّي للإجابة عليها. من بين هذه الأسئلة، السؤال عن ماذا تنوي هذه النخب أن تحققها باتباع هذه السياسات؟ وماذا تستفيد النخب الحاكمة إذا تحول البلد – لا سمح الله – إلى صومال ثاني؟ لكن السؤال الأهم والذي يحتاج إلى تأمل دقيق من الجميع، هل ستقود ثورات دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق إلى نفس نتائج ثورة الجنوب؟ مع الوضع في الإعتبار الشريط الملتهب من دارفور في أقصى الغرب إلى البحر الأحمر في أقصى الشرق.
العقد الاجتماعي:
من السرد السابق نخلص بأن نخب الشمال النيلي، التي ورثت السلطة السياسية والاقتصادية في السودان، قد طبقت برامج الإقصاء والتهميش بمنهج محكم، ليس فقط كيف تُحكم البلاد لكن أيضاً بمّن. وهي بذلك أنشأت وطورت أحزاب سياسية تصنف إما طائفية دينية أو عقائدية متطرفة، فأثبتت بأنها لا تعترف بالتعدد العرقي والديني والثقافي، وبالتالي عملت على تأصيل التطهير الثقافي وتدمير الاقتصاد الوطني. وهكذا أوصلت هذه السياسات المدمرة البلاد إلى ما هو عليه الآن، فشل في إدارة البلاد وفشل في تماسك وحدة البلاد التي ورثوها من المستعمِر. إن ما نحتاج إليه اليوم قبل أن نتحدث عن الديمقراطية والتنمية، هو العمل على وضع دستور يرضي عنه كل أبناء السودان على إختلاف أعراقهم ودياناتهم وأقاليمهم. دستور يحدد مؤسسات الدولة التي لم تكتمل حتى اليوم، علماً أن الديمقراطية لا يمكن ممارستها على أسس سليمة دون وجود مؤسسات دستورية وسياسية تمارس الديمقراطية من خلالها. مثل هذا الدستور لا بد أن يقام على تعاقد اجتماعي لعنصر التجمع البشري السوداني.
من بين القراءات التاريخية التي تشير إلى بداية تطور مفهوم العقد الاجتماعي، نجد في القرن الثالث عشر، أن الصراع بين الملك جون وعدد من رعاياه (البارونات) في إنجلترا، قد أفضى إلى ثورة مسلحة ضد الملك وإجباره على توقيع وثيقة الحقوق" ماقنا كارتاMegna Charta " سنة 1215م أي وثيقة الشرعة الكبرى وفيها أكره الملك على احترام الأوضاع القائمة في ظل الدولة الإقطاعية. وكان الملك في ذلك الوقت يتمتع بحق الملوك الإلهي لا يُسأل الملك إلا أمام الله الذي يستمد منه سلطانه مباشرةً. هذه الوثيقة كانت بمثابة الأساس لمبادئ الدستور فيما يتعلق بحكم الملك ومحدودية نفوذه وسلطته. وثيقة ماقنا كارتا أو ما يسمى بالميثاق العظيم للحريات، تعتبر من أهم الوثائق القانونية في تاريخ الديمقراطية، فكان له نفوذ على نطاق واسع في العملية التاريخية التي أدت إلى سيادة القانون الدستوري اليوم. ففي نفس العام تم توزيع أربع نسخ من هذه الوثيقة على بلدان العالم، لهذا نقرأ في يومنا هذا سمات هذه الوثيقة في بنود بعض الدساتير، مثل "لن يسلب أي رجل حر أملاكه أو يسجن على يد رجال آخرين مساوين له إلا إذا خضع لمحكمة عادلة أو لن نبيع العدالة لأحد ولن ننكرها على أحد، ولن نؤخرها عن أحد".
فالصراع القائم اليوم في السودان، هو صراع حول كيفية وضع دستور دائم للبلاد. وكما وضح لنا في السرد التاريخي السابق، يعتبر السودان دولة لا وجدان لها فلن يتم وضع حدٍ للصراع الذي بداخلها ما لم يتولى أمر حله المالك نفسه، أي التجمع البشري الذي هو الركن الأساسي للدولة وصاحب السيادة الوطنية، ليمارس حقه بمطلق الحرية في تعاقد اجتماعي يُتفّق عليه لملامح الدستور الأساسية، فالحل إذاً يكمن في العقد الاجتماعي. فالدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة)، ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري)، وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية). كما أن الدستور ينظم السلطات العامة من حيث التكوين والاختصاص، والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع لها الضمانات تجاه السلطة. ويشمل الدستور أيضاً اختصاصات السلطات الثلاث (السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية)، وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي، فالقانون يجب أن يكون متوخياً للقواعد الدستورية وكذلك اللوائح يجب أن تلتزم بالقانون الأعلى منها مرتبة إذا ما كان القانون نفسه متوخياً القواعد الدستورية. وفي عبارة واحدة تكون القوانين واللوائح غير شرعية إذا خالفت قاعدة دستورية واردة في الوثيقة الدستورية.
هناك اجماع عام عند علماء السياسة، بأن الدولة تكون مكتملة التكوين عندما تتوفر فيها العناصر الأربع المذكورة آنفاً. ففي السودان لا وجود لعنصر الدستور المُتفق عليه من كافة شعوب الدولة، مما أدى إلى تأجيج الصراعات بين عناصر الدولة المختلفة. ويعود الخلل في عدم إكتمال تأسيس الدولة السودانية إلى عدم التوافق في صياغة شكل النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني (الدستور) الذي يتمسك به التجمع لتحقيقه، ومن ثمّ الاستقرار السياسي للدولة واستدامة الأمن والشروع في التنمية التي تقود بدورها إلى رفاهية شعوب الدولة. يجدر بنا أن نذكر أن بناء الدول تقوم على أساس إحدى النظريات التالية: (أ) نظرية العقد الاجتماعي، وفيها يرى جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، سنة 1762م، أن الإنسان وجد نفسه في الأصل في حالة طبيعية ومتحرراً من كل ارتباط اجتماعي. لكن "تأتي الحياة الاجتماعية لا من ضرورة لصيقة بطبيعة الإنسان وإنما من عقد إرادي أُبرِمَ بين أفراد الجماعة"، فقد استشعر الأفراد الفائدة التي يمكن أن تعود عليهم عن التنازل عن استقلالهم بمقتضى اتفاق عام يسميه روسو العقد الاجتماعي. وبمجرد إبرام هذا العقد يصبح هو أساس الدولة، وأساس سلطة الدولة أي السيادة، وأخيرا أساس الحريات الفردية. (ب) نظرية العقد السياسي، وفيها يتم اتفاق بين أشخاص أو بين هيئات سياسية موجودة قبل وجود الدولة، فتتشكل تنظيمات اجتماعية سابقة على الدولة، هذه التنظيمات تتفق علي وضع دستور دائم ومن ثمّ إقامة سلطة سياسية مركزية وعلى إنشاء الدولة. الأمر الذي فشل فيه منظمات المجتمع المدني (مؤتمر الخريجين) مع التنظيمات السياسية والاجتماعية آنذاك من القيام به، أما الفشل الأعظم فيعود إلى الأحزاب السياسية في فترات الديمقراطية الثلاث، والتي كانت أصلاً جمعيات تأسيسية. إذاً هذه النظرية أثبتت عدم جدواها في البيئة السودانية. (ج) نظرية المؤسسة، تنطلق هذه النظرية من نقطة أن الدولة بها كل خصائص الهيئة الاجتماعية المنظمة، فالدولة هي مجموعة أفراد تقودها حكومة مركزية لتحقيق مشروع معين وهو إقامة النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يستفيد منه كل أفراد الجماعة، وفي هذه الحالة يلعب عامل الظرف التاريخي الدور الفعال لتطوير هذه النظرية ومن ثمّ تصبح الدولة هي صاحبة السيادة بدلاً عن الحكومة كما كان سائداً في البداية. مرة أخرى لن تصلح هذه النظرية في السودان لأن البلد عبارة عن تجمع عدة دول، أي ثقافات مختلفة ولا يمكن لنمو ثقافة واحدة أن تطغى على بقية الثقافات المتعددة. إذاً في سعينا لإعادة تشكيل الدولة السودانية، لن تبقى لنا إلا تجربة نظرية العقد الاجتماعي.
نشأ مفهوم العقد الاجتماعي في صورته الحالية، كتطور طبيعي للفكر الفلسفي الذي كان سائداً في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لوصف الأوضاع السياسية للمجتمعات الأوربية. هذا المفهوم أتى بحلول ناجعة للصراعات القائمة آنذاك في أوروبا، فهذه الأفكار جعلت من مجتمعات النزاعات، أن تتحول إلى مجتمعات المجتمع المدني المتحضر. إن مفهوم العقد الاجتماعي، الذي يعني في معناه العام، إبرام اتفاق بين الناس الذين جمعتهم رقعة جغرافية محددة، بموجبه يتحدون ويكونون هيئة معنوية لإدارة الإرادة العامة. هم يسمونها دولة، يصبحون رعاياها ومواطنون فيها، يتساوون في الحقوق والواجبات. فمن منطلق المفاهيم النبيلة للعقد الاجتماعي، أصبح في قناعاتنا، أنه يمكن أن يصلح علاجاً مفيداً للأزمات السياسية في دول العالم الثالث وبالأخص السودان.
ففي بحث تطور مفهوم العقد الاجتماعي، يمكن أن نستخلص هنا بعض آراء فلاسفة تلك الفترة. فنجد أن الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679م) يقول "أن سلب الحريات من الناس والصراعات" التي كانت موجودة في عهده، والصراع في إنجلترا و"علاقة الملك بالبرلمان ثم علاقة الدين بكل من المجتمع والدولة، شكلت الأرضية للتفكير في قيم الحرية." فيقوم هوبز ويصف الناس "بأن معظمهم يعتقدون أنهم أسمى من الآخرين، وهم يتصفون كذلك بغرور باطل. وحقيقة الأمر أن معظم الناس متساوون في القدرات الجسدية والعقلية". وبعد مرور أكثر من أربعمائة عام، نكتشف أن هذا الوصف مطابق تماماً في حكام سودان اليوم، من غرور باطل وعدم إعترافهم بالمساواة بين الناس في القيمة البشرية. وبما أن هذا هو حال السودان، في القرن الحادي والعشرين، يجب على الأجيال الحالية أن تسعى جادة للبحث عن الحلول الناجعة والمستدامة. وهذا يتطلب الفهم العميق والإيمان الراسخ بأن طبيعة العقد الاجتماعي هو ما يجب أن يفهمه الناس بأنه العامل المتين الذي يشترك فيه الجميع في فعالياته حتى تكون نتائجها مقبولة للكل كأساس للمجتمع. وفي هذا يقول توماس هوبز أن "العامل الأساسي هو الحرية أو الحق المنظم بالطبيعة أو العقل."
وفي موقع آخر، فإن العقد الاجتماعي في معناه العام، هو اتفاق مجموعة من الناس من التنازل عن حريتهم الطبيعية للإرادة العامة دون أن يتركوا حرياتهم. وعندما تُنتزع منهم حرياتهم الطبيعية تقوم الثورات التي تقود في النهاية إلى عقد اجتماعي (حالة السودان في الوقت الراهن) أو الاتفاق لصالح الإرادة العامة، أي إنشاء الدولة برضاء الجميع. ويذكر توماس هوبز، كيف أن الحروب الأهلية في إنجلترا وثورة البرلمان بقيادة أوليفر كرومويل، أدي إلى إعدام الملك شارل الأول في العام 1649م، كما تسببت تلك الثورة الإنجليزية في قيام ثورة مماثلة في فرنسا أدت بدورها إلى إعدام الملك لويس السادس عشر في فرنسا.
في قراءة أخرى لفيلسوف إنجليزي آخر هو جون لوك (1632 – 1704م)، إذ يصف حالة الطبيعة "بأنها الحرية التامة التي يكون للناس فيها الحق في تنظيم أفعالهم والتصرف في ملكياتهم، والميل إلى أشخاصهم على نحو ما يرونه مناسباً لهم داخل الإلتزام بقوانين الطبيعة - الذي يوحي بالنظام العقلاني لوجودنا - دون الحاجة إلى الإعتماد على إرادة أي إنسان آخر". وقانون الطبيعة هذا عند جون لوك، يهدف إلى أن يُعلِم الناس بشكل أساسي على أن لا يؤذي فردٌ فرداً آخراً. فالإتفاق هو الطريقة الوحيدة التي يسلب بها الفرد نفسه من حريته الطبيعية، ويدخل في إلتزامات المجتمع المدني، باتفاقه مع البشر الآخرين على الدخول في وحدة وتشكيل المجتمع المدني.
هنا يؤكد لنا جون لوك، أن الدولة في المجتمع المدني (طبيعة العقد الاجتماعي)، "تنشأ من اتفاق جماعي بين الناس على أن يكون الحكم فيها للأغلبية. وبهذا الإعتبار فإن حكومة المجتمع المدني هي مخلوقة عندما أي عدد من الناس يصنعون بالاتفاق كل مع الآخر مجتمعاً، فإنهم بذلك يصنعون مجتمع الجسم الواحد بقوة تفعل ككيان واحد، محدد فقط بإرادة وشرط حكم الأغلبية المقيدة"، أي الأغلبية التي يجب أن تحترم حقوق الجميع. لذا فإن "حاجة المجتمع المدني إلى السلطة الحاكمة أو الدولة، هي الحاجة للمحافظة على الحياة والحرية والملكية، وهي حقوق مهددة بالتعدي". لهذا فإن غاية القانون هي الحفاظ على حرية الإنسان. والعقد في طبيعته عند جون لوك، هو تنظيم للحرية بالقانون. وقيام المجتمع المدني هو دلالة الحرية المنظمة. وبالتالي فإن مصدر قوة الدولة، نابع من العقد أو الاتفاق، الذي يقيد الحكومة ويفصل السلطات ويقر حق الثورة، عندما تخرج الحكومة عن العقد أو الاتفاق.
وفي فرنسا، نجد أن الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778م)، يرى في العقد الاجتماعي على "أنه نابع من عدم المساواة السياسية، إذ تمثل الامتيازات التي يتمتع بها البعض على حساب الآخرين. فالناس يعيشون الحاضر فقط، ولا يمتلكون أية خطة عقلانية للمستقبل". وبالفعل هذه هي حالة النخب السودانية الحاكمة، خاصة أهل المؤتمر الوطني. ويطلق روسو السؤال التالي، "كيف تستطيع السياسة الفاسدة أن تتحول إلى سياسة جديدة للفضيلة المدنية؟" ويجيب فيقول " يمكن من خلال شكل التربية المدنية التي تعلم الأفراد واجباتهم. وتعلمهم جعل حب وطنهم في المقدمة". وهذا التوجه نحو التربية الوطنية هو الذي يُؤسس الفكرة المحورية أو الفكرة الرئيسية للعقد الاجتماعي الجديد عند روسو.
وفي موضع آخر يسأل روسو نفسه، "كيف يوجد شكل من الاتحاد، يدافع ويحمي بكل القوة، العامة الشخص وخيرات كل متحد، عن طريق الوسائل التي بها يتحد كل فرد مع الكل، ومع ذلك لا يطيع إلا نفسه فقط، ويبقى حراً كما كان؟" ويجيب نفسه فيقول يوجد في، "العقد الاجتماعي الذي يشترط أن كل فرد يجب أن ينقل كل حقوق المرء إلى المجتمع. ولما كان هذا الشرط متساوياً بالنسبة لكل فرد، فليس لأحد مصلحة أن يجعله شاقاً على الآخرين." ويسأل مرة أخرى "لماذا يقبل الأفراد بهذا النوع من الترتيب الاجتماعي؟" فيجيب، "ذلك لأنهم يرغبون في أن يحددوا لأنفسهم دوراً في التنظيم الجمعي. وهكذا يريدون مثل كل الآخرين الخضوع للقواعد والأهداف المشتركة للنظام أو التنظيم." فهنا تكمن الميزة التي يجنيها الأفراد بعمل هذا، إذ "أن كل شخص يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد". بمعنى أن كل شخص أصبح محكوماً بفكرة الخير المشترك ذاته، الذي يرى بإعتباره مفيداً لكل الناس، بما فيهم بطبيعة الحال نفس المرء أو نفس الفرد، فيدخل كل شخص في التوجه الأسمى للإرادة العامة. وعمل الإرادة العامة هنا هو أساس حياة المرء. فالإرادة العامة بالنسبة لروسو هي دائماً حق، وهو قناعة تتجسد في ما تطالب الآخرين ليفعلوه لك، يجب أن تفعله لهم.
وفي موقع آخر، يتحدث روسو عن مستوى الوعي السياسي المتقدم، الذي يجب أن يتوفر لجمهور الشعب، فيقول "يعتمد تعضيد المساواة السياسية على إمكانية المجتمع الذي فيه يكون المواطنون قادرين على التفكير بالقضايا العامة باعتبارهم يناقشون المسائل أو القضايا المواجهة لهم، وعندما لا يملك الناس هذه القدرة تتحول السياسة إلى صراعات المصلحة الخاصة باستخدام المنتصرين القوة العامة لتشجيع أهدافهم الخاصة على حساب الآخرين." على ضوء هذا يجب أن نقر بضرورة الإثراء في نقاش المسائل الخلافية باسلوب حضاري، لنصل إلى تفاهم مشترك ومن ثمّ سلام دائم، الذي هو مقصد فكر العقد الاجتماعي.
في عصرنا هذا، ليس بالضرورة أن يطبق مفهوم العقد الاجتماعي باتباع نفس الخطوات التي تمت في أوروبا في القرون الماضية. الذي يهم، بل ضعنا نقول أن المطلب الوطني الضروري هو أن تجتمع كل شعوب السودان المختلفة ليمثلوا أقاليمهم في مؤتمر جامع وبإرادتهم الحرة ليعبروا عن مصالحهم، ففي ذلك يجمعون على إجابة سؤال محوري، وهو كيف لهم أن يعيشوا في هذه الرقعة الجغرافية في أمن وسلام دائمين؟ أو بصورة أخرى، ما هي الشروط التي تجعلهم يعيشون مع بعض في دولة واحدة؟ والإجابة على ذلك هي، القيام أولاً بإبعاد كل المسائل التي تفرق بين الناس من أية عملية دستورية، سواءً كانت على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون أو الإقليم أو القبيلة أو الخلفية الثقافية. وهذا يعود إلى طبيعة الإنسان الاجتماعية حيث أن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره من أفراد البشر الآخرين، خاصة فيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية حيث أن أي فرد من أفراد المجتمع يحتاج للمعاملات الاقتصادية مع الآخرين، فلا بد لهم أن يتعاونوا من خلال تفاعلاتهم الاجتماعية المختلفة.
من جانب آخر، هناك قضايا دستورية خلافية، لا بد من الوصول إلى وفاق وطني حولها. فعلى سبيل المثال لا الحصر: إقحام الدين في السياسة، الإقرار والإعتراف بالتعدد الإثني والديني، التوزيع العادل لثروات البلاد، الهوية السودانية، الحريات والحقوق الأساسية للإنسان، الديمقراطية التوافقية، لامركزية الحكم، حماية البيئة، تحديد عرق بعينه لإدارة شئون الدولة، تفضيل ثقافة محددة لتهيمن على بقية الثقافات، إقرار جنس واحد لإدارة الدولة – كأن تقول أن المرأة لا تصلح لقيادة الدولة، وهكذا. مثل هذه القضايا وعدم التوصل إلى التوفيق في معالجتها، هي التي تسبب الصراعات والإقتتال بين الناس أفراداً وجماعات. ومن ثمّ خلق بيئة غير آمنة للجميع، بيئة تقود إلى فقد مصالح الأفراد، بيئة تؤدي إلى الإنهيار الكلي للمجتمع. لهذا، فالحل يكمن في الوصول إلى صيغ توفيقية من أهل الشأن لتؤدي إلى عمل الإرادة العامة. وهذا ما يعنيه روسو في كيف يوجد شكل من الاتحاد يدافع ويحمي بكل القوة، الشخص الفرد وخيرات كل متحد، عن طريق الوسائل التي بها يتحد كل فرد مع الكل، ومع ذلك لا يطيع إلا نفسه فقط، ويبقى حراً كما كان؟ أي العقد الاجتماعي الذي يشترط أن كل فرد يجب أن ينقل كل حقوق المرء إلى المجتمع. إذاً عملية العقد الاجتماعي، هي اللبة الأساسية لوضع دستور دائم للبلاد يحقق بناء وطن يدين له جميع أبنائه بالمحبة والولاء والإنتماء، إذ أنه من شأن ذلك أن يضع السودان في أعتاب طريق التنمية والرفاهية لشعوبه.
مفهومي حق تقرير المصير والعقد الاجتماعي، وأيهما يعود بفائدة أفضل وأشمل للجميع؟:
مما تقدم عن طبيعة نشأة الدولة السودانية، نجد أن الإخوة الجنوبيين، في مسعاهم لتماسك وحدة البلاد من التفكك المحتمل، ومن منطلق قناعتهم بوحدة وتماسك البلاد التي صنعها الاستعمار، قد بادروا في تقديم حلول عملية قابلة للتطبيق وذلك بمطالبتهم بنظام فيدرالي في إطار السودان الواحد، كان ذلك في مؤتمر جوبا الأول الذي انعقد في 12 يونيو 1947م. وكما سبق فإن الصراع السياسي السوداني والذي يمكن أن يلخص بأنه قائم بين الطلب والرفض، قد قاد المعارضة السودانية متمثلة في التجمع الوطني الديمقراطي بأن تتبنى إقرار حق تقرير المصير للمدريات الجنوبية الثلاثة في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا (إريتريا) العام 1995م، كما أن ذات الصراع أجبر الحكومة السودانية بأن توافق على إقرار حق تقرير المصير في اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005م، وبموجب هذه الاتفاقية تم تفكك السودان إلى دولتين في التاسع من يوليو العام 2011م.
في هذا المنحى نود أن نقارن بين مفهومي حق تقرير المصير والعقد الاجتماعي. أولاً، حق تقرير المصير، هو مصطلح في مجال السياسة الدولية والعلوم السياسية، يشير إلى حق كل مجتمع ذات هوية جماعية متميزة، مثل شعب {الميدوب} أو مجموعة عرقية متميزة مثل {النوبة في منطقة جبال النوبة} أو غيرهما، بتحديد طموحاته السياسية، ومن أجل تحقيق ذلك يتبنى المجتمع المعني، النطاق السياسي المفضل والمناسب لبيئته في إدارة حياة المجتمع اليومية. يتم ممارسة هذا الحق بحرية تامة دون تدخل خارجي أو قهر من قبل أية شعوب أو منظمات أجنبية. وبالتالي فإن حق تقرير المصير ومن منطلق السياق القانوني، هو مبدأ في القانون الدولي الذي أقره ميثاق الأمم المتحدة، وفي ذلك أن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها. هنا نلاحظ أن إحدى مواد القانون الدولي تنص على أنه "لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذاتي". الجدير بالذكر أن مفهوم تقرير المصير، قد تجسد أولاً في إعلان الاستقلال الأمريكي في العام 1776م، ثم في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان في العام 1789م.
ومن جانب آخر، فإن مفهوم العقد الاجتماعي كما سبق، يعني في معناه العام، إبرام اتفاق بين الناس الذين جمعتهم رقعة جغرافية محددة، بموجبه يتحدون ويكونون هيئة معنوية لإدارة الإرادة العامة، أي الدولة، يصبحون رعاياها ومواطنون فيها، ويتساوون فيها في الحقوق والواجبات. لهذا فإن حاجة المجتمع إلى السلطة الحاكمة أو الدولة، هي الحاجة للمحافظة على الحياة والحرية والملكية، وهي حقوق مهددة بالتعدي، والعقد في طبيعته هو تنظيم للحرية والملكية بالقانون.
من هذا المنطلق، واضح جداً بأن العقد الاجتماعي أوسع منظوراً من تقرير المصير، إذ أنه يمثل أهم النظريات التي ظهرت حتى الآن بشأن تأسيس الدولة، لهذا فإن الدول التي نشأت عن طريق ممارسة حق تقرير المصير وانفصلت عن الدولة الأم، مثل دولة جنوب السودان، هي أيضاً في حاجة ماسة لعملية العقد الاجتماعي، لتتمكن كل فئات مجتمع الدولة الحديثة من ممارسة حقها السيادي في تفصيل دولتها.
الشاهد في الأمر أن الشعوب التي تعاني من النزاعات المتواصلة، تصل إلى قناعة أن وحدتها مسألة حتمية لحماية مصالحها الاقتصادية والأمنية على وجه الخصوص. وإذا توقفنا عند تجربة السودان الحالية، يبدو جلياً أن حكومة الجبهة الإسلامية الحالية قد سارعت وأوصلت جميع فئات الشعب السوداني في طول البلاد وعرضها، إلى أن سبل عيشها على المستوى الشخصي محددة بالإنقراض، وأن سلامة أمنها على المستوى الفردي أصبحت غير متوفرة في الريف والحضر على حد سواء. فحالة السودان هذه شبيهة لما حصلت في أوروبا في عصر فلاسفة التنوير مما قادت إلى إقامة دولة التعاقد، ومن ثَمّ الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية. لهذا فإن الظرف الحالي في السودان أنسب من أي وقت مضى لإقامة دولة التعاقد الاجتماعي، إذ أن مثل هذه العملية من شأنها أيضاً أن تستصحب معها بوادر رتق النسيج الاجتماعي السوداني الذي بات يتفكك يوماً بعد يوم.
من جانب آخر، يعمل تقرير المصير على تصحيح أوضاع سياسية وإدارية غير متفق عليها من الجميع في دولة قائمة (السودان نموذجاً). وتصحيح الأوضاع هذه، تحتمل محصلة لعدة نتائج عند ممارسة حق تقرير المصير، من ضمنها (أ) الاستقلال التام، أي إنشطار القطر الواحد إلى دول عدة فيصبح كل قطر مستقل تماماً عن الآخر، كما حصل في السودان في شهر يوليو العام الماضي. وهناك أيضاً احتمالات أخري منها، (ب) أن تكون النتيجة في شكل اتحاد فيدرالي/كنفدرالي، أو (ج) حماية دولية لإقليم ما في إطار الدولة الموحدة. مثال لذلك، وإستناداً على القانون الدولي الخاص بحماية الأقليات، أن يطلب شعب منطقة جبل ميدوب الواقعة في أقصى شمال غرب إقليم دارفور، حماية من الأسرة الدولية بمقتضاها تطاح له المجال في الحفاظ على الإرث الثقافي الموروث، وتسمح له بتحقيق تنمية محلية على النحو الذي يراه مناسباً لمنطقته. كما يحق لهذا الشعب أن يشارك في إدارة شئون الدولة على المستوى القومي. ومن الاحتمالات الأخرى (د) أن تقام وحدة كاملة بين المركز والأقاليم الحاملة للسلاح – مثال دارفور وكردفان وجنوب النيل الأزرق والشرق وأقصى الشمال. على أية حال، فالهدف الرئيسي في ممارسة حق تقرير المصير أن يعم السلام لهذه المجتمعات، سواءً أبقوا في دولة واحدة أو تفتتوا إلى عدة دول. لكن يبقى القاسم المشترك بين مفهومي العقد الاجتماعي وتقرير المصير، أن أفعالهما هي من صنع شراكة كل الناس في البلد/الإقليم المعني. والهدف السامي منها هو تنظيم حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية على النحو الذي يرضونه بمطلق حريتهم دون أن تفرض عليهم جهة ما أشياء خارجة عن إرادتهم.
مسألتان معيقتان لعملية العقد الاجتماعي أو لممارسة حق تقرير المصير، هما مفهوم العلمانية والهوية القومية. فقد رأينا كيف أن الثورات المطالبة بالحقوق الأساسية للإنسان، قد أدت إلى قتل عدد من الملوك الذين كانوا يتمتعون بحق الملوك الإلهي ويؤسسون لحاكمية الدين. وبما أن هذين المصطلحين هما من ضمن القضايا الدستورية الخلافية في وسط المجتمع السوداني، فسأقدم هنا بعض التوضيحات المختصرة لهما لغرض مفهوم العقد الاجتماعي الذي نحن بصدده الآن.
العلمانية
إبتداءً، الجميع متفقون على أن السودان بلد متعدد الأعراق، والديانات، والثقافات، واللغات. وهذا واقع لا يمكن إلغاءه أو تجاهله. لذلك فالجميع ينادي بعدم تفرقة الناس على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون أو الإقليم أو القبيلة أو الخلفية الثقافية. وهذا يعني في حقيقته عند ممارستنا للعمل السياسي عدم خلط هذه الأمور في العمل العام. إذاً ما الذي يمنع من استخدام كلمة العلمانية لتعني فصل السياسة عن الدين والعرق والجنس والإقليم والقبيلة والثقافة؟ أي بمعنى آخر فصل السياسة عن المشاعر الوجدانية. ففي حقيقة الأمر فإن فصل سلطة الدولة عن الدين يعتبر شرطاً ضرورياً لتوفير الحرية للمواطنين. ذلك أن القول بأن الدولة تستمد سلطتها من الدين يضع عبئاً ثقيلاً علي ضمائر الأفراد يعوقهم علي رؤية الدولة علي حقيقتها ومحاسبة حكوماتها. فالعَلمانية أي Secularism تعني، اصطلاحاً " فصل الدين والمعتقدات الدينية عن السياسة. وقد تعني عدم قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أي أحد على اعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية." من هنا يمكن أن نشير إلى الرأي الذي مفاده أن الأنشطة البشرية والقرارات ولا سيما السياسية منها ينبغي أن تتجرد من التأثير الديني. لذا من الناحية السياسية، العلمانية هي التحرك في اتجاه الفصل بين الدين والحكومة. وهو ما يسمى في كثير من الأحيان في الدول الغربية بالفصل بين الكنيسة والدولة. في هذا نجد أن المفكر البريطاني جورج هوليوك الذي يعتبر أول من ابتدع مصطلح العلمانية في العام 1851م، يصفها بأنها نظام اجتماعي منفصل عن الدين غير أنه لا يقف ضده "لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية هي فقط مستقلة عنها، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها. المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى للتطور والرفاه في هذه الحياة، وتختبر نتائجها في هذه الحياة". وبناءً عليه، يمكن القول أن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم، ترفض وضع الدين أو سواه من المشاعر الوجدانية كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، وتتجه إلى الإهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الأخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلاً من الأمور الغيبية. هذا المفهوم لمعنى العلمانية، قاد الكثيرين في أمريكا بأن يقولوا أن الدولة العلمانية قد ساعدت إلى حد كبير في حماية الدين من التدخل الحكومي.
هوية السودان القومية:
عندما تُبعد كل المسائل الخلافية بحيث لا تتدخل في إدارة شئون الدولة دستورياً، ويبقى القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع السودانيين هو البقعة الجغرافية أي السودان، حينئذ تصبح الهوية القومية للسودانيين التي لا خلاف فيها هي السودانوية.
ممثلي التعاقد الاجتماعي:
الحديث عن شعوب وإثنيات السودان المختلفة، والحديث عن وجود فئات اجتماعية محددة تمارس عملية إقصائية ضد الآخرين، والحديث عن الدول والممالك المختلفة قبل أن تتم توحيدها بحد السيف في دولة واحدة، والحديث عن كيفية الوصول إلى صيغ توفيقية للقضايا الدستورية الخلافية. هذا التباين الواضح في التركيبة الإثنية لشعوب السودان ومعها التعددية الثقافية، ثم الاختلاف البيّن في جغرافية البلاد ومعها التباين في سبل كسب العيش أي النمط الاقتصادي للشعوب المختلفة، أضف إلى ذلك التعدد الديني واللغوي لأهل السودان. كل ذلك يقودنا إلى سؤال محوري، ألا وهو كيف يتم اختيار ممثلي هذه الشعوب في عملية التعاقد الاجتماعي؟.
بالطبع لا توجد إجابة محددة لعملية اختيار ممثلين تقوم على تجربة دولة بعينها، وذلك لعدم وجود نظامين سياسيين متطابقين، لذلك يجب أن تكون عملية الاختيار قائمة على المصالح الذاتية للناس كوسائل كسب العيش أو المصالح المشتركة أو الانتماءات الإثنية، تلك الأشياء التي تهم كل فرد على حدا من أفراد المجتمع. ففي هذه الحالة نرى أن تكون إحدى المعايير لإختيار المشاركين في عملية التعاقد الاجتماعي، مؤسسة على ممثلي المزارعين والرعاة والعمال وأصحاب العمل والهيئات النقابية والنسائية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني والإدارة الأهلية. المعيار الثاني، أن يكون الإختيار من الإدارة الأهلية، وذلك لأن الإدارة الأهلية موجودة في كل الريف السوداني بل وفي كثير من مراكز الحضر. أهم ما في هذا المعيار أنه يُمَكِن كل قبائل السودان في المشاركة، وحتى تكون هناك مشاركة شاملة لكل فئات المجتمع يضاف في هذا المعيار، الهيئات النقابية والنسائية والشبابية ومنظمات المجتمع المدني. المعيار الثالث وهو أكثر شمولاً وتعقيداً، هو أن يضاف للمعيارين الأول والثاني، ممثلين للقوات النظامية والقيادات الدينية والحركات المسلحة والأحزاب السياسية. وبما أن القوات النظامية هي قومية التكوين ذات رئاسة مركزية، وأن الحركات المسلحة، وبالرغم من شرعية قيامها وصفتها القومية فهي غير موجودة في كل أقاليم السودان، لذا يصعب الإنصاف في اختيار ممثلين للقوات النظامية والحركات المسلحة في عملية العقد الاجتماعي. أما الأحزاب السياسية فيجب أن تبعد تماماً من عملية العقد الاجتماعي، لسبب رئيسي وهو أن الأحزاب السياسية سوف تضع مصالحها في الوصول إلى السلطة فوق المصلحة الوطنية، كما أن تكويناتها العقائدية والدينية الطائفية سوف تجعلها تتصارع في بينها لإثبات رؤيتها السياسية، وبالتالي لن تصل لأي وفاق، والدليل على ذلك فشل تجارب الفترات الديمقراطية الثلاث الماضية. فالصراع هنا تكمن في كيفية صنع الدولة وليس في كيفية حكمها. الصراع هنا في كيفية وضع قواعد اللعبة السياسية وليس اللعب بحد ذاته. يأتي دور الأحزاب السياسية عندما تقام الدولة وعندما يتم وضع قواعد اللعبة لتقوم هي بممارسة الحكم، فلا يعقل أن تقام الأحزاب قبل وجود الدولة التي ستحكمها، كما أنه من أساسيات التعاقد الاجتماعي أن يضع شروط وصف الأحزاب السياسية. وكما تقول العامية السودانية، ال في أيدو قلم ما بكتب نفسو شقي. أهم شرط في كل هذه المعايير هو مراعاة تمثيل جميع أقاليم السودان في هذا التكوين.
الدستور لتأطير ما تم الاتفاق عليه:
ياتي الدستور لإقرار ما تم الاتفاق عليه من قبل كل الأطراف المعنية والشركاء الأساسين في دولة التعاقد. وهذا الدستور يفسر مفردات دولة التعاقد، والتي تشمل الدولة، النظام السياسي، الثروة، السلطة، مجتمع دولة التعاقد، الديمقراطية السياسية والإدارية، .... إلخ.
أبكر محمد أبوالبشر
Abuelbashar2002@yahoo.co.uk
مانشستر "المملكة المتحدة"، 28 فبراير 2013م.
المقدمة
هناك نظامين للحكم في العالم لإدارة الدول، هما نظام الحكم المركزي والحكم اللامركزي. نظام الحكم المركزي هو الذي تتركز فيه كل السلطات السياسية والإدارية والمالية في المركز بالدستور. ويمكن أن يخول المركز جزء من سلطاته لأي إقليم بالقانون وليس بالضرورة أن يكون التفويض بنفس المستوى لنفس المسألة إذا كان لأكثر من إقليم واحد، كما لا توجد قاعدة ثابتة لتحديد فترة التفويض.
أما نظام الحكم اللامركزي، فهو النظام الذي يتم فيه الفصل بين السلطات المركزية وسلطات الولايات في مجالات التشريع والتنفيذ، وهو يحتمل عدة أوجه منها الفيدرالية، والكنفدرالية والإقليمية، والحكم الذاتي. والفرق الأساسي بين هذه المسميات هو درجة توزيع السلطات بين المركز والأقاليم بالدستور. فكلما إزدادت السلطات الممنوحة للأقاليم كلما تطور الأمر من الإقليمية إلى الكنفدرالية، و الكنفدرالية هي أعلى درجات اللامركزية حتى الآن في مفهومها المتطور دستوريا من الذي كانت تُعرف به في السابق (بأنها شكل من أشكال الاتحاد بين دولتين أو أكثر بحيث تقوم سلطة مركزية مشتركة بممارسة بعض صلاحياتها وتسمي الاتحاد التعاهدي). لكن يبقى النظام الفيدرالي كحالة وسطية هو أشهر أوجه اللامركزية لإدارة الدول في عالم اليوم.
2ـ الفيدرالية
النظام الفيدرالي هو نظام سياسي يجمع عدد من الدويلات أو الأقاليم أو الإمارات في اتحاد أكبر وأقوى غير مركزي، فيه تحتفظ هذه الولايات بهويتها السياسية. في هذا الاتحاد يتم تقسيم السلطات التشريعية والتنفيذية بالدستور، وبموجب هذا الدستور تنشأ ولايات أو أقاليم تؤول إليها سلطات تشريعية وتنفيذية في الشئون المحلية التي تخص كل ولاية، لكن توجد في بعض الأحيان سلطات مشتركة بين المركز والولايات. من أمثلة السلطات المحلية للولايات، نجد الأمن المحلي، رعاية وتطوير الثقافات المحلية، التعليم قبل المرحلة الجامعية، التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الضرائب المحلية ... إلخ. وفي الجانب الآخر تتولى السلطة المركزية أمر التشريع والتنفيذ للمسائل القومية ذات الصفة السيادية وهي مسائل لا تتجزأ، من أمثلة ذلك العلم والنشيد الوطني، الجيش، العلاقات الخارجية، العملة، التعليم العالي، المشاريع القومية مثل مياه الأنهر والموانئ البحرية وثروات باطن الأرض كالبترول ... إلخ. وكما تسمى السلطة المركزية بالاتحاد (Federation)نجد أن الأقاليم تتخذ عدة أسماء لنفس الغرض، مثلاً ولاية (State) وهي أشهر المسميات، إقليم(Region)، إمارة (Emirate).. وهكذا.
تختلف تكوين الحكومة الفيدرالية من دولة لأخرى، ولكن أقلها هي مستويين إثنين، حكومة مركزية وحكومة ولائية. ففي حالة نيجيريا هناك ثلاثة مستويات من الحكم، مركزية وولائية ومحلية، وفي كل هذه المستويات تتوزع السلطات بالدستور.
3- أسباب الفيدرالية
في كثير من الأحيان تنشأ الدولة الفيدرالية بموجب اتفاق بين عدد قليل من الدويلات أو الأقاليم، ثم تتوسع وتشمل أعداد أكثر من الدويلات أو الأقاليم أو المحميات في اتحاد أوسع. قد يكون الغرض من ذلك الرغبة الأكيدة لحل مشكلات متشابهة ومشتركة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تأسست فيها الفيدرالية في ١٧٨١م ثم إكتملت في صورتها الحالية في العام ١٧٨٨م بعدد ٥٠ ولاية. والدولة الأمريكية تعتبر أول دولة تؤسس النظام الفيدرالي الحديث. أو أن يكون الغرض للدفاع المشترك، كحالة سويسرا، أو لخلق أمة واحدة قوية (Nation State) لإثنية واحدة تشتت في دويلات كثيرة مجاورة، كحالة ألمانيا الاتحادية، التي تأسست في العام ١٨٧١م وإكتملت في صورته الحالية بعد توحيد الألمانيتين.
لكن يبقى كبر حجم الرقعة الجغرافية للدولة المعنية من الأسباب القوية التي تستدعي قيام النظام الفيدرالي في تلك الدولة، لهذا نجد أن ثمانية دولة من بين عشرة أكبر دول مساحةً في العالم تحكم بالنظام الفيدرالي. مثل أستراليا التي يصعب إدارتها من المركز، فقد تم فيها إجراء إستقتاء شعبي عام لكل سكان البلد الذي صوت جلهم بقول (نعم) للنظام الفيدرالي في العام ١٩٠١م.
كما أنه يتواجد أكثرمن سبب دفع ببعض الدول لتبني الفدرالية. مثل دول كإثيوبيا، والهند ونيجيريا. إذ أدت المساحات الشاسعة وتعدد القوميات في إثيوبيا إلى قيام نظام فيدرالي مكون من ٩ أقاليم إثنية، والذي يعرف في وسط الكثير من علماء السياسة "بالفيدرالية الإثنية". فدستور إثيوبيا الحالي قائم على إعطاء القوميات المختلفة الحق في تنمية مواردها المحلية والحفاظ على إرثها الثقافي الموروث وتقرير مصيرها – وهذا الحق الأخير قاد إلى تماسك الوحدة حتى الآن بصورة أقوى بدلاً عن التوجه في الإتجاه المعاكس. أما النظام الفيدرالي في نيجيريا فقد بدأ منذ عهد الاستعمار البريطاني بعدد ثلاثة ولايات وعلى أساس القوميات الثلاث الكبيرة، لكن إزدادت عدد الولايات إلى ٣٦ ولاية لتشمل كل القوميات الصغيرة. ومن جهة أخرى نجد أن دولة الإمارات العربية المتحدة التي تتكون من ٩ إمارات، تقسيمها قائم على أساس عشائري وتاريخي.
4- تجربة السودان
إبتداءً، من الدوافع الرئيسية التي أدت إلى المناداة بالنظام الفيدرالي، هو فشل النظام المركزي منذ نشأة الدولة السودانية في العام ١٨٢٠م في إدارة السودان. والدليل على ذلك أنه لم ينعم السودان باستقرار أمني وسياسي منذ ذلك التاريخ وحتى بعد انفصال الجنوب في شهر يوليو ٢٠١١م، حيث لم تتوقف وتيرة ثورات الأقاليم المختلفة ضد المركز. كما أن تجربتي الحكم المحلي، في فترة النميري والنظام الذي يسمى بالفيدرالي الحالي،قد فشلتا بسبب قيامهما على أسس خاطئة، أي كلاهما أُنشاءا بالقانون وليس بالدستور، الذي يقوم هو الآخر برضاء كل أهل البلد. لهذا نجد أن النميري قد ألغى دستور سنة ١٩٧٣م بعد عشرة سنوات فقط، أي في العام١٩٨٣م لأن ذاك الدستور لم يستند على سند شعبي. كما أن النظام الفيدرالي الحالي لا طعم له ولا رائحة ولا لون لأن التنافس المحلي لإدارة الولايات لا يستند إلى ديمقراطية حقيقية، فرأس الدولة هو الذي يقوم بتنصيب وعزل الولاة.
وحالة السودان هذه وبالرغم من أنها تسمى بالفيدرالية، إلا أن المعايير العالمية لا تنطبق عليها حتى نجزم أن في السودان يوجد نظام سياسي فيدرالي. كالوضع اليوم في المملكة المتجدة، وبالرغم من أن اسكتلندا مثلاً لها برلمانها الخاص وعملتها – الجنيه الاسكتلندي يساوي تماماً في القيمة الجنيه الاسترليني – ونظام قضائي خاص – تذكر قضية لوكربي وعبد الباسط المقرحي – وسياسة التعليم الجامعي الخاص، إلا أن بعد هذا كله لا يعتبر النظام الإداري السياسي في المملكة المتجدة نظاماً فيدرالياً بل هو نظام مركزي، خول بعض سلطاته لدول اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية. (تذكر منافسات كأس العالم لكرة القدم إذ أن انجلترا واسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية كلها تتنافس على أساس دول مستقلة، لهذا نكرر القول بالرغم من التشابه في الأنظمة السياسية إلا أنه لا توجد تطابق كامل في حالتين). الجدير بالذكر أن السلطات المخولة هذه ليست بالتساوي لكل دول المملكة المتحدة. لهذا يمكن أن نقول أن الفرق الأساسي بين النظامين الفيدرالي والمركزي، أن النظام الفيدرالي يقوم على رغبة طوعية من القاعدة، بينما النظام المركزي هو تفويض السلطات من القمة للقاعدة.
إضافةً إلى ذلك هناك سببين قويين يستدعيان إنشاء نظام فيدرالي في السودان، هما المساحة الشاسعة للبلد والظرف التاريخي لقيام الدولة السودانية. السودان وقبل انفصال الجنوب كان تاسع أكبر دولة مساحةً في العالم، لهذا أثبتت التجربة صعوبة إدارتها من المركز. من الناحية التاريخية، دولة السودان هي نتاج لإخضاع الممالك والسلطنات بقوة السلاح - كانت دولاً قائمة بذاتها – وكان لكل دولة إرثها التاريخي في إدارة نفسها تختلف عن الأُخر. مثال ذلك تعتبر سلطنة دارفور من الدول التي طبقت النظام الفيدرالي الإثني لفترة فاقت الـ أربعمائة عام، في ذلك أن نظام "الحواكير" القبلية يعطي الحق لزعيم القبيلة أن يمارس السلطات الإدارية والمالية والسياسية والقضائية في حاكورته بمرسوم ملكي يحدد تلك الصلاحيات – وحسب معرفتي فإن صلاحية التصديق لتنفيذ حكم الإعدام هي من إختصاصات السلطان أي رأس الدولة. لكن تبقى الحقيقة أن الفيدرالية الإثنية التي طبقت في سلطنة دارفور لم تكن مستوفية للمواصفات العالمية في عصرنا هذا.
من تجربة السودان الإدارية والسياسية منذ أن أصبح دولة واحدة، يتضح لنا ضرورة إقامة نظام فيدرالي حقيقي يستوفي المواصفات العالمية، في مقدمة ذلك أن تستوفي المقومات المذكورة في الفقرة أدناه حتى يكون البناء متيناً من القاعدة للقمة.
5- مقومات النظام الفيدرالي
ليست هناك تجربة محددة يمكن تطبيقها بنفس القدر علي كل الدول، التي ترغب في تأسيس نظام فيدرالي سياسي، فكل دولة لها تجربتها الخاصة التي تلائم بيئتها. لكن هناك اجماع عام لقاعدة رئيسية توضح المقومات التي يجب أن تتوفر لإنجاح النظام الفيدرالي، منها:
أ- الدستور: في البدء، يجب أن تنشأ الفيدرالية بموجب دستور يستند على عقد اجتماعي يتفق علية الجميع. لأنه حتى الآن توجد في السودان بعض الأحزاب السياسية التي لا ترغب في قيام النظام الفيدرالي. لهذا نرى أهمية الاجماع القومي لضمان الاستمرارية.
ب- الديمقراطية: النظام الديمقراطي للحكم هو توأمة للنظام الفيدرالي، أي من أساسيات الفيدرالية. لأن من يضع القانون يعرف أكثر من غيره كيف يجب أن ينفذ. في ذلك أن شعب إقليم ما، عندما يشرع في إدارة شئونه الداخلية هو أدرى بآليات محاسبة السلطة التنفيذية المحلية المختارة بواسطة شعب الاقليم المعني وليس من المركز.
ج- القضاء: السلطة القضائية هي الجهة الوحيدة المختصة بتفسير بنود الدستور، وبالتالي هي التي تحكم وتفصل بين الناس في المسائل القانونية، وهي الحكم بين مؤسسات الدولة بما فيها بين المركز والولاية فلا تتدخل أية منهما في شئون الآخر، لأن هذه الشئون مقرة بالدستور. لهذا يجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماماً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
د- الفيدرالية المالية: الفيدرالية المالية هي مكملة للفيدرالية الإدارية، في ذلك أن مالية الدولة كلها يجب أن تجمع في خزينة واحدة، ثم توزع بعد ذلك على نسبتين، النسبة الأولى رأسياً بين المركز والولايات والنسبة المقررة للولايات توزع أفقياً بين الولايات في بعضها. التوزيع العادل للسلطات الدستورية بين المركز والأقاليم، تصحبه إلتزامات مالية يجب الوفاء بها لانجازهذه المهام. مثال الجيش والامن يتم الصرف عليهما من مالية المركز في حين الخدمات الصحية المحلية تقوم الولايات بالصرف عليها. إذاً في هذه الحالة لا بد من التوزيع العادل لمال الدولة للوفاء بالإلتزامات المقررة لكل سلطة. المبدأ العام للفيدرالية الإدارية والفيدرالية المالية، هو في جوهره مبدأ واحد ألا وهو التوزيع العادل للسلطات الإدارية والمالية بين المركز والأقاليم. لكن هناك بعض المسائل تخص الفيدرالية المالية يجب توضيحها هنا.
(١) في الفيدرالية المالية تنشأ هيئة مستقلة تقوم بجمع مال الدولة كله في خزينة واحدة وهي المسئولة عن توزيع ذلك المال، بهذا يمكن أن توصف هذه الهيئة بأنها الجهة الوحيدة التي تمارس السيادة على مالية الدولة.
(٢) يتم تأسيس معايير باتفاق كل أجهزة الدولة لتوزيع المال، هذه المعايير تضع في الإعتبار إحتياجات المركز وإحتياجات الأقاليم للمال المطلوب لفترة زمنية محددة. هذه المعايير تتغير من وقت لآخر، ومعها تتغير النسب المقررة لكل ولاية، كما تتغير النسب أيضاً بين المركز والأقاليم. إذاً في هذه الحالة تختلف أسس التوزيع في الفيدرالية المالية عن الإدارية، إذ أن النسبة في الفيدرالية الإدارية متساوية لكل الولايات، مثال ذلك مهام مجالس التشريع الولائية هي نفسها في كل الولايات، أو سلطات وزارة الصحة الولائية هي نفسها في كل الولايات. ولكن الفيدرالية المالية تختلف علي حسب حجم الولايات من ناحية مساحة وعدد السكان...الخ.
(٣) الصرف على المشاريع القومية هو من مهام المركز. المهم في الفيدرالية المالية أن أية ولاية لن تستطيع أن تطبق النظام الفيدرالي الصحيح ما لم يتوفر لها المال الكافي لإدارة شئونها الداخلية.
هـ- الحريات: الإعلام الحر والحريات الأساسية للإنسان كلها من المسائل الضرورية التي يجب أن تتوفر لضمان سلامة تطبيق النظام الفيدرالي.
كلمة أخيرة، أثبتت التجارب أن النظام الفيدرالي لن ينجح ما لم يستند على دستور وطني يرضى عنه كل أبناء السودان على إختلاف أعراقهم ودياناتهم وأقاليمهم.
إعداد/أبكر محمد أبوالبشر
أمين العلاقات الخارجية في الجبهة السودانية للتغيير
كمبالا، يوغندا، الأربعاء، 25 يناير/كانون الثاني، 2012
المقدمة
في البدء، لنا قناعة راسخة بأن سودان الغد – أي بعد زوال/اسقاط النظام الحالي – لن يكون كما كان، وأن تجربتي أكتوبر 1964م وإبريل 1985م لن تتكررتا بنفس المنوال السابق. فكثير من المهتمين بالشأن السوداني، وعلى ضوء قراءة الأوضاع السياسية الحالية، يشيرون إلى أن سودان الغد يحمل في طياته احتمالين إثنين، هما سودان متماسك قوي، وسودان مفكك ضعيف، وقد تكون – لا سمح الله - الحالة الأخيرة هذه أسوأ من حالة صومال اليوم. ففي كلا الحالتين نحن نرى أن مسئولية مستقبل البلد تقع كاملاً على عاتق المعارضة الحالية.
في هذا نشكر الجبهة السودانية للتغيير على اهتمامها بدراسة القضايا الوطنية الخلافية، ليس فقط لايجاد أرضية صلبة تتفق حولها فصائل المعارضة المختلفة، بل أيضاً لتبصير وتنوير المواطن السوداني الذي يهمه مستقبل البلد. كما أننا نشكر الجبهة السودانية للتغيير ثانياً في ثقتها وتكليفها لنا بكتابة هذه الورقة عن النظام الفيدرالي لإدارة الدولة. إذ فيها سنوضح تجربة النظام الفيدرالي في عديد من دول العالم، وما لهذا النظام من فوائد للبشرية، لنرى كيف سيتم الاستقرار السياسي في السودان إن هو طبق بالطريقة السليمة.
فقهاء القانون الدولي يقسمون الدول من الناحية القانونية إلي دول بسيطة ودول مركبة، ويعتمد هذا التقسيم علي التركيب الداخلي للسلطة، فإذا كانت القوة الدافعة سياسياً وحكومياً مركزة في يد شخص قانوني واحد كانت الدولة بسيطة أو موحدة، أي وحدة غير قابلة للتجزئة إلي أجزاء داخلية ومثالها مصر وأسبانيا. أما إذا تعددت المراكز الداخلية في الدولة فإن الدولة تكون مركبة. والدولة المركبة تتكون من عدة دول تربط بينها علاقات تختلف في قوتها وهي تنقسم بدورها إلي دول متحدة اتحاداً شخصياً، ودول متحدة اتحاداً كونفدرالياً، ودول فيدرالية. فالاتحاد الشخصي، شكل من أشكال الاتحاد يتربع فيه ملك واحد علي عرش مملكتين، ويمثل شخص الملك السيادة في المملكتين المتحدين، وتعتير هذا الشكل من الحالات النادرة في عالم اليوم. أما الاتحاد الكونفدرالي كالوضع في سويسرا، فهو تنظيم اتحادي غير مستقر، إما أن ينحل وإما أن يتحول إلي دولة فيدرالية. ويلاحظ أن هناك فارقاً هاماً بين الاتحاد الكونفدرالي والاتحاد الفيدرالي. فبينما ينشأ الاتحاد الكونفدرالي باتفاقية دولية. ينشأ الاتحاد الفيدرالي بدستور. والقاعدة العامة هي، أن من حق الدول الداخلة في اتحاد كونفدرالي أن تنسحب، بينما لا تملك الدول المتحدة اتحاداً فيدرالياً هذا الحق. وأخيراً الاتحاد الفيدرالي، هو مجموعة من الدول، تربط بينها علاقات قانون داخلي، هو القانون الدستوري. ويرى بعض فقهاء القانون أن الدول الفيدرالية تتميز بالخصائص الآتية: أولاً: لكل دولة/ولاية/إقليم من الدول المحلية دستورها ثانياً: يوجد عادة في الدول الفيدرالية مجلسان للبرلمان ثالثاً: تعتبر السلطة القضائية سلطة لها دور فيدرالي وذلك في حل ما ينشأ من منازعات. رابعاً: لتعديل نصوص القانون الفيدرالي يتعين مساهمة السلطات الفيدرالية والسلطات المحلية وتعاونها تعاوناً وثيقاً وبناء علي ذلك لا يمكن انتزاع اختصاصات من الدول المحلية دون رضاها.
من الناحية السياسية، أو من وجهة نظر المعيار السياسي، وهو المعيار الذي نعتمد عليه في ورقتنا هذه، هناك نظامين للحكم في العالم لإدارة الدول، هما نظام الحكم المركزي والحكم اللامركزي. فنظام الحكم المركزي هو الذي تتركز فيه كل السلطات السياسية والإدارية والمالية في المركز بالدستور. لكن رغم ذلك يمكن للمركز أن يخول جزء من سلطاته لأي إقليم بالقانون وليس بالضرورة أن يكون التفويض بنفس المستوى لنفس المسألة إذا كان لأكثر من إقليم واحد، كما هو الحال في المملكة المتحدة إذ أن نظام التعليم في اسكتلندا مثلاً يختلف عنه في ويلز وإنجلترا. ومن جانب آخر لا توجد قاعدة ثابتة في النظم المركزية للحكم تحدد نوعية السلطات التي يمكن تخويلها للأقاليم ولا فترة التفويض وحجمها.
أما نظام الحكم اللامركزي، فهو النظام الذي يتم فيه توزيع سلطات الدولة في مجالات التشريع والتنفيذ بين المركز والولايات/الأقاليم بالدستور. الجدير بالذكر أن السلطة القضائية في حالات الحكم اللامركزي، هي في الأساس سلطة اتحادية مستقلة، لأن من شأنها حل ما ينشأ من نزاعات بين الولايات أو بين الولايات والاتحاد، فهي بذلك لها صفتين هامتين هما الإستقلالية والمركزية الموحدة. لكن هناك بعض الحالات تكون للولايات سلطات قضائية خاصة بها، مثل القضاء الشرعي الإسلامي في بعض ولايات نيجيريا الشمالية المسلمة، وعلى رأسها ولاية زمفرا. أو بعض ولايات الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تطبق حكم الإعدام. لكن كل هذا لا يعني توزيع السلطات القضائية بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، بقدر ما هي إجراءات استثنائية لسن تشريعات ولائية لعلاج أوضاع خاصة في تلك الولايات، وبالطبع لا ترقى هذه التشريعات أن تعمم على المستوى القومي في الدولة المعنية.
ونظام الحكم اللامركزي هذا يحتمل عدة أوجه وتسميات منها الفيدرالية، والكنفدرالية، والإمارة، والإقليمية، والحكم الذاتي. والفرق الأساسي بين هذه المسميات هو درجة توزيع السلطات بين المركز والأقاليم بالدستور. فكلما إزدادت السلطات الممنوحة للأقاليم كلما تطور الأمر من الإقليمية إلى الكنفدرالية، والكنفدرالية هي أعلى درجات اللامركزية حتى الآن في مفهومها المتطور دستورياً من الذي كانت تُعرف به في السابق (بأنها شكل من أشكال الاتحاد بين دولتين أو أكثر بحيث تقوم سلطة مركزية مشتركة بممارسة بعض صلاحياتها وتسمي الاتحاد التعاهدي). وفي كل الأحوال يبقى النظام الفيدرالي كحالة وسطية هو أشهر أوجه اللامركزية لإدارة الدول في عالم اليوم.
2ـ الفيدرالية
النظام الفيدرالي هو نظام سياسي للحكم يجمع عدد من الدويلات أو الأقاليم أو الإمارات في اتحاد أكبر وأقوى غير مركزي، فيه تحتفظ هذه الدويلات بهويتها السياسية والإدارية. في هذا الاتحاد يتم تقسيم السلطات التشريعية والتنفيذية بالدستور، وبموجب هذا الدستور تنشأ ولايات أو أقاليم تؤول إليها سلطات تشريعية وتنفيذية في الشئون المحلية التي تخص كل ولاية، لكن توجد أيضاً في بعض الأحيان سلطات مشتركة بين الاتحاد والولايات. وفي الجانب الآخر تتولى السلطة الاتحادية أمر التشريع والتنفيذ للمسائل القومية ذات الصفة السيادية التي من شأنها أن توحد كل أجزاء القطر الواحد، من أمثلة ذلك العلم القومي، النشيد الوطني، المشاريع القومية مثل مياه الأنهر والموانئ البحرية وثروات باطن الأرض كالبترول ... إلخ. وكما تسمى السلطة المركزية بالاتحاد (Federation) نجد أن الأقاليم تتخذ عدة أسماء لنفس الغرض، مثلاً ولاية (State) وهي أشهر المسميات، إقليم (Region)، إمارة (Emirate) محافطة Province))، مقاطعة Territorial District) ) ... وهكذا. في هذه الورقة سوف نستخدم كلمة "ولاية" لتعني السلطة التي تلي السلطة الاتحادية مباشرة.
فيما يلي وعلى سبيل المثال لا الحصر أمثلة للسلطات المخولة بالدستور للاتحاد وللولايات وكذا السلطات المشتركة:-
أ- الصلاحيات المخولة للحكومة الاتحادية ما يلي:
• صك العملة وطباعتها (النقود والسندات).
• إعلان الحرب.
• تأسيس وإدارة الجيش.
• العلاقات الخارجية والدخول في معاهدات مع حكومات أجنبية.
• تنظيم التجارة بين الولايات وكذا تنظيم التجارة الدولية.
• إنشاء مكاتب البريد وإصدارات الطوابع.
• سن القوانين اللازمة لتطبيق الدستور.
ب- صلاحيات حصرية لحكومات الولايات تشمل:
• تأسيس الحكومات المحلية.
• إصدار التراخيص (السواقة، والصيد، والزواج، ... إلخ).
• تنظيم للتجارة الداخلية (داخل الولاية).
• إجراء الانتخابات.
• حماية الناس من التهديدات المحلية وتوفير السلامة والصحة العامة.
• الصلاحيات التي لا تخص الحكومة الاتحادية ولا هي ممنوعة بدستور البلاد.
• تنظيم ملكية الممتلكات.
• تثقيف المقيمين.
• تنفيذ برامج المنافع الاجتماعية وتوزيع المساعدات.
• الحفاظ على نظام العدالة في الدولة.
• الحفاظ على الطرق السريعة للدولة وضمان إدارة الطرق المحلية.
• تنظيم الصناعة.
ت- الصلاحيات المشتركة بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات؛ تشمل ما يلي:
• إنشاء المحاكم.
• إنشاء وتحصيل الضرائب.
• بناء الطرق السريعة في وبين الولايات.
• اقتراض المال.
• سن وتطبيق القوانين.
• ترخيص البنوك والشركات التعاونية.
• إنفاق المال من أجل تحسين الرفاه العام.
• الاستيلاء على الملكية الخاصة مع تعويض عادل.
إذاً في النظام الفيدرالي نجد أن الدستور يوضح السلطات المخولة لكل مستويات الحكم بالتفصيل – أي السلطات التي تخص الاتحاد والولاية والمحلية والسلطات المشتركة. إضافة إلى ذلك نجد أن دساتير بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، ينص دستوريهما بأن كل السلطات التي لم يمنحها الدستور للاتحاد تؤول للولايات. بينما في حالتي كندا والهند ينص دستوريهما بأن كل السلطات التي لم تورد في حق المحافظات، تؤول للحكومة الاتحادية. أضف إلى ذلك أن العرف الدولي السائد في النظم اللامركزية، يبين أن السلطات الممنوحة بالدستور للولايات متساوية تماماً في كل ولايات الدولة الواحدة، إلا أننا نجد في بعض البلدان أن الدستور يمنح سلطات سيادية إضافية أو مميزة لبعض الولايات، مثال ذلك ولايتي ساراواك وسباح اللتان دخلا في الاتحاد مع ماليزيا بشروط وضوابط تختلف عن بقية ولايات ماليزيا.
وعلى الرغم من التشابه القوي في بعض الحالات، أضف إلى ذلك تزايد التوجه العالمي نحو توزيع السلطات الدستورية بين المركز والأقاليم – أي التوجه نحو الفيدرالية، إلا أنه لا يوجد نظامين متطابقين في دستورهما وفي تشكيلهما للحكومة الفيدرالية، وبالتالي نجد هناك فارق في التطبيق والأداء. لهذا تختلف تكوين الحكومة الفيدرالية من دولة لأخرى، ولكن أقلها هي مستويين إثنين، حكومة اتحادية وحكومات ولائية. ففي حالة نيجيريا كمثال نجد أن هناك ثلاثة مستويات من الحكم، اتحادية وولائية ومحلية، وفي كل هذه المستويات تتوزع السلطات بالدستور.
يجدر بنا أن نذكر هنا، أن كثير من الأنظمة الفيدرالية تأسست على حماية الحقوق الفردية للولايات المكونة للاتحاد، فنجد أن المجالس التشريعية الاتحادية تتكون من مجلسين، أحدهما للنواب المنتخبين من الجمهور وفي هذه الحالة تتفاوت عدد الممثلين من الولايات حسب الكثافة السكانية. والمجلس الثاني يمثل الولايات بعدد متساوي لكل الولايات مهما كان حجم كبر الولاية. ومهمة مجلس الولايات هذه هي الدفاع عن حقوق الولايات، فالأعضاء فيه يمتلكون حق النقض بالدستور في المسائل التي تخص ولاياتهم. مثال ذلك إذا تنازلت الحكومة الاتحادية السودانية عن أرض حلايب - وهي أرض تابعة لولاية البحر الأحمر – وتم طرح إجراءات التنازل على طاولة مجلس النواب التشريعي وقام هذا المجلس بتأييد مشروع الحكومة الاتحادية، يصبح من حق أعضاء مجلس الولايات المنسوبين لولاية البحر الأحمر دستورياً أن يستخدموا حق النقض (الفيتو) ويبطلوا القرار من أساسه بالدستور، وإلا تنهار الدولة بكاملها.
3- دواعي قيام الفيدرالية
من الشواهد التاريخية، أن كثير من الدول الفيدرالية نشأت بموجب اتفاق بين عدد قليل من الدويلات أو الأقاليم، ثم توسعت وشملت أعداد أكثر من الدويلات أو الأقاليم أو المحميات في اتحاد أوسع. مثلما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تأسست فيها الفيدرالية في 1781م ثم إكتملت في صورتها الحالية في العام 1788م بعدد 50 ولاية ومقاطعة مستقلة للعاصمة القومية واشنطن. وربما كان الغرض من ذلك الرغبة الأكيدة لحل مشكلات متشابهة ومشتركة بين الولايات المتنافرة آنذاك. والدولة الأمريكية تعتبر أول دولة تؤسس النظام الفيدرالي الحديث. وفي مواقع أخرى، قد يكون الغرض من تبني الفيدرالية الرغبة في الدفاع المشترك، كحالة سويسرا. أو الرغبة لخلق أمة واحدة قوية (Nation State) لإثنية واحدة تشتت في دويلات كثيرة مجاورة، كحالة ألمانيا الاتحادية، التي تأسست في العام 1871م وإكتملت في صورته الحالية بعد توحيد الألمانيتين.
لكن يبقى كبر حجم الرقعة الجغرافية للدولة المعنية من الأسباب القوية التي تستدعي قيام النظام الفيدرالي في تلك الدولة، مثل أستراليا التي يصعب إدارتها من المركز، فقد تم فيها إجراء إستقتاء شعبي عام لكل سكان البلد الذي صوت جلهم بقول (نعم) للنظام الفيدرالي في العام 1901م. لهذا نجد أن ثمانية دولة من بين عشرة أكبر دول مساحةً في العالم تحكم بالنظام الفيدرالي.
في الواقع يتواجد أكثرمن سبب واحد دفع ببعض الدول لتبني الفدرالية. مثل دول إثيوبيا والهند ونيجيريا. إذ أدت المساحة الشاسعة وتعدد القوميات في إثيوبيا – حوالي 80 قومية - إلى قيام نظام فيدرالي مكون من 9 أقاليم إثنية، والذي يعرف في وسط الكثير من علماء السياسة "بالفيدرالية الإثنية". فدستور إثيوبيا الحالي قائم على إعطاء القوميات المختلفة الحق في تنمية مواردها المحلية والحفاظ على إرثها الثقافي الموروث وتقرير مصيرها – وهذا الحق الأخير قاد إلى تماسك الوحدة حتى الآن بصورة أقوى بدلاً عن التوجه في الإتجاه المعاكس. والحالة نفسه يتكرر في الهند، فبالإضافة إلى المساحة الشاسعة للبلد، وبالرغم من أنه لا توجد نصوص واضحة في الدستور، إلا أن الفيدرالية الهندية تُوصف بأنها قائمة – في الوقت الحاضر – على تعدد اللغات وهي تتكون من 28 ولاية و7 مقاطعة. أما النظام الفيدرالي في نيجيريا فقد بدأ منذ عهد الاستعمار البريطاني بعدد ثلاثة ولايات وعلى أساس القوميات الثلاث الكبيرة وهي فلاني/هوسا ويوروبا وإقبو، لكن إزدادت عدد الولايات إلى 36 ولاية – في جوهرها على أساس قبلي - إضافة إلى مقاطعة مستقلة للعاصمة القومية أبوجا، لتشمل كل القوميات الصغيرة – تُقدر عدد سكان نيجيريا اليوم ب155 مليون نسمة يتحدثون حوالي 510 لغة. ومن جهة أخرى نجد أن دولة الإمارات العربية المتحدة التي تتكون من 9 إمارات، تقسيمها قائم على أساس عشائري وتاريخي.
من السياق السابق، اضطدح جلياً أن عالم اليوم يتوجه وبنسب مضطردة نحو توسيع قاعدة المشاركة لاتاحة الفرص لشعوبها في إدارة شئون الدولة. وفلسفة النظام الفيدرالي هذه، لها فوائد جمة من ضمنها، تقليل فرص الثورات الإقليمية أو ثورات الأقليات ضد المركز، لأن جميع السكان يشعرون بأنهم مشاركون في إدارة بلدهم وهم بالتالي شركاء في إخفاقات ونجاحات الدولة. كما أن مشاركة القواعد في السلطة تعزز من فرص التنمية الشاملة للبلد، لأن كل محلية أدرى بإحتياجاتها للتنمية وبالتالي تتصاعد مشاريع الخطط التنموية من القاعدة للقمة ومن كل أركان البلد.
4- تجربة السودان
إبتداءً، من الدواعي الرئيسية التي أدت إلى المناداة بالنظام الفيدرالي، تمثلت في مقدمتها الظرف التاريخي لقيام الدولة السودانية. فمن الناحية التاريخية، دولة السودان هي نتاج لإخضاع الممالك والسلطنات بقوة السلاح من المستعمر الأجنبي - كانت دولاً قائمة بذاتها – وكان لكل دولة إرثها التاريخي في إدارة نفسها تختلف عن الأُخر. ففي ذلك كانت سلطنة دارفور آخر إقليم يتم ضمه قسراً للسودان الحديث عندما تم غزوه بواسطة الاستعمار البريطاني في عام 1916 ومن ثمّ أصبح رسمياً كأحد مديريات السودان في الأولِ مِنْ يناير/كانون الثّاني 1917. ويمكن أن يقال أن سلطنة دارفور في عهدها كانت تطبق النظام الفيدرالي الإثني، في ذلك أن نظام "الحواكير" القبلية يعطي الحق لزعيم القبيلة أو العشيرة أن يمارس السلطات الإدارية والمالية والسياسية والقضائية في حاكورته بمرسوم ملكي يحدد تلك الصلاحيات. لكن تبقى الحقيقة أن الفيدرالية الإثنية التي طبقت في سلطنة دارفور لم تكن مستوفية للمواصفات العالمية في عصرنا هذا. هذا الظرف التاريخي ذا الإرث الموروث، قاد الجنوبيون ومنذ وقت مبكر بأن يطالبوا بنظام فيدرالي لإدارة السودان في العام 1947م.
ثاني الأمور التي تستدعي قيام نظام فيدرالي في السودان، هي المساحة الشاسعة للبلد، السودان وقبل انفصال الجنوب كان تاسع أكبر دولة مساحةً في العالم، لهذا أثبتت التجربة صعوبة إدارتها من المركز. ومن جانب آخر، السودان بلد متعدد الثقافات والأديان والأعراق واللغات. ففي بعض الدراسات، يبلغ تعداد القبائل السودانية حوالي 450 قبيلة هذه القبائل تتحدث أكثر من 110 لغة. الأمر الذي يوضح بجلاء تام صعوبة إن لم نقل إستحالة إدارة الإرث الثقافي لهذه القبائل مركزياً.
أمر ثالث، هو فشل النظام المركزي منذ نشأة الدولة السودانية في العام 1820م في إدارة السودان، لأن المركز تبنى سياسات إقصائية مبرمجة ضد الأطراف، هذه السياسات قضت على قضايا التماسك والوحدة الإجتماعية في السودان. والدليل على ذلك أنه لم ينعم السودان باستقرار أمني وسياسي منذ ذلك التاريخ وحتى بعد انفصال الجنوب في شهر يوليو 2011م، حيث لم تتوقف وتيرة ثورات الأقاليم المختلفة ضد المركز. وبالتالي قادت سياسات الإقصاء هذه البلاد إلى مفترق الطرق مما يعني تفككها إلى عِدّة كيانات مُتنافرة.
أمر رابع، التشويه التي صاحبت تجربة الحكم المحلي في فترة النميري، وتجربة النظام الذي يسمى بالفيدرالي الحالي، لقد فشلتا بسبب قيامهما على أسس خاطئة، أي كلاهما أُنشاءا بالقانون وليس بالدستور، الذي يقوم هو الآخر برضاء كل أهل البلد. لهذا نجد أن النميري قد ألغى دستور سنة 1973م بعد عشرة سنوات فقط، أي في العام 1983م لأن ذاك الدستور لم يستند على سند شعبي. وبالتالي فإن المعايير العالمية للنظام الفيدرالي لا تنطبق على التجربتين السودانيتين حتى نجزم أن في السودان يوجد نظام سياسي فيدرالي فهو لا يستند إلى ديمقراطية حقيقية، فرأس الدولة هو الذي يقوم بتنصيب وعزل الولاة.
نخلص من هنا أن الفرق الأساسي بين النظامين الفيدرالي والمركزي، هو أن النظام الفيدرالي يقوم على رغبة طوعية من القاعدة فيما يخص توزيع السلطات، بينما النظام المركزي هو تفويض السلطات من القمة للقاعدة. وعليه نرى أن من تجربة السودان الإدارية والسياسية منذ أن أصبح دولة واحدة، يتضح لنا ضرورة إقامة نظام فيدرالي حقيقي يستوفي المواصفات العالمية، في مقدمة ذلك أن تستوفي المقومات المذكورة في الفقرة أدناه حتى يكون البناء متيناً من القاعدة للقمة.
5- مقومات النظام الفيدرالي
ليست هناك تجربة محددة يمكن تطبيقها بنفس المستوى علي كل الدول، التي ترغب في تأسيس نظام فيدرالي سياسي، فكل دولة لها تجربتها الخاصة التي تلائم بيئتها. لكن هناك اجماع عام على قاعدة رئيسية توضح المقومات التي يجب أن تتوفر لإنجاح النظام الفيدرالي، منها:
أ- الدستور: في البدء، يجب أن تنشأ الدولة الفيدرالية بموجب دستور يستند على عقد اجتماعي يتفق عليه جميع الفئات الاجتماعية للبلد المعني (السودان)، مثل هذا الدستور الوطني هو الذي يحدد عدد مستويات الحكم، إثنين أو أكثر وبالتالي يحدد توزيع السلطات بين هذه المستويات ومعها كيفية ممارسة هذه السلطات. بل وفوق كل هذا يضع قيوداً بحيث لا تتدخل إحدى المستويات في شئون المستوى الآخر المخولة بالدستور. لهذا تصبح جميع السلطات وعلى كل المستويات مخولة بالدستور، وأي مخالفة تصبح عملاً غير دستوري مما يؤهلها بأن تكون باطلاً.
في السودان تقتضي الضرورة قيام فيدرالي بموجب دستور منشأ باجماع كل أهل البلد، لأن الملاحظ وجود بعض الفعاليات السياسية التي لا ترغب في قيام النظام الفيدرالي. لهذا نرى أهمية الاجماع القومي لضمان الاستمرارية.
ب- الديمقراطية: الديمقراطية في معناها العام، هي حالة المجتمع التي يتمتع فيها جميع المواطنين البالغين بحقوق متساوية في القرارات التي تؤثر سير حيانهم، أو في مواقع أخرى تفسر الديمقراطية بأنها حكم الشعب بالشعب، بمعنى أنه لا يوجد اتفاق عالمي موحد لمفهوم مصطلح الديمقراطية، لكن هناك اتفاق عام منذ القدم بأن قيم المساواة والحريات هما صفتان أساسيتان في صلب الديمقراطية. من جانب آخر تعني الفيدرالية إعطاء الفرصة – الحرية – لجميع شعب البلد الواحد للمشاركة في إدارة شئون الدولة، وحق المشاركة هذا يصل في بعض الأحيان إلى مستوى البلديات – حق المساواة في كل مستويات الحكم. وهذا يقودنا بأن نخلص إلى أن الطريقة الديمقراطية للحكم هي توأمة للنظام الفيدرالي، أي أنها من أساسيات الفيدرالية.
ج- القضاء: السلطة القضائية تكتسي أهمية خاصة بإعتبارها أهم ضمانة لاحترام حقوق الإنسان وحماية مصالح الأفراد والجماعات، وبإعتبارها الآلية المعهود إليها بضمان سيادة القانون، ومساواة الجميع أمام مقتضياته، ويترتب عن الثقة في استقلال ونزاهة القضاء بناء المؤسسات الديمقراطية. لهذا "إذا كان العدل أساس الحكم، فإن استقلال القضاء هو أساس العدل". فالسلطة القضائية هي الجهة الوحيدة المختصة بتفسير بنود الدستور، وبالتالي هي التي تحكم وتفصل بين الناس في المسائل القانونية، وهي الحكم بين مؤسسات الدولة بما فيها المركز والولاية فلا تتدخل أية واحدة منهما في شئون الآخر، لهذا يجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماماً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهذا يعني الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، إذ لا يجوز بإسم أي سلطة سياسية أو إدارية، مركزية أو ولائية، أو أي نفوذ مادي أو معنوي، التدخل في أي عمل من أعمال القضاء، أو التأثير عليه لأي شكل من الأشكال، ولا يجوز لأي شخص أو مؤسسة من السلطة التنفيذية، بما فيهم رئيس الدولة، أن يتدخل لدى القضاء بخصوص أي قضية معروضة عليه للبت فيها.
د- الفيدرالية المالية: الفيدرالية المالية هي إحدى فروع الاقتصاد العام التي تعتني بتوزيع مال الدولة على مستويين أساسيين، رأسي وأفقي. وعلى هذا الأساس فإن مفهوم الفيدرالية المالية هي علاقات التوزيع الرأسي والأفقي لمال الدولة على مستويات الحكم المختلفة. فالتوزيع الرأسي يهدف إلى تحويل الأموال من المستوى الأعلى – الاتحاد – للمستوى الذي يليه – الولاية – وذلك لتلبية متطلبات السلطات الممنوحة للولايات. أما الهدف من التوزيع الأفقي، والذي يتم بين الولايات فهو لتحقيق العدالة في التنمية الغير متوازنة بين الأقاليم المختلفة، مثال ذلك طول الطرق المسفلتة في إقليم دارفور بأكمله لا يزيد عن 295 كلم وهي المسافة التي تربط مدن منواشي ونيالا وزالنجي، مقارنة بالطرق المسفلتة في الإقليم الشمالي على ضفتي النيل – شرق النيل وغرب النيل – والتي تفوق طولها عن 1500 كلم. مثل عدم التوازن هذا في خدمات الطرق هو الذي يستدعي التوزيع العادل لمال الدولة، عن طريق وضع معايير منصفة لتقسيم نصيب الولايات.
ويمكن أن تطبق سياسات الفيدرالية المالية هذه حتى في النظم المركزية طالما هناك تفويض من المركز للوحدات الدنيا لتنفيذ سلطات محددة. لكن الشاهد في الأمر أن طرق التطبيق تختلف من دولة لأخرى وذلك لإختلاف النظم السياسية نفسها. لهذا يمكن أن نخلص بأن الفيدرالية المالية هي مكملة للفيدرالية الإدارية. ففي بعض الدول نجد أن مالية الدولة كلها تجمع في خزينة واحدة، ثم توزع بعد ذلك على نسبتين، التوزيع الأول يتم رأسياً بين المركز والولايات والنسبة المقررة للولايات توزع أفقياً بين الولايات في بعضها. التوزيع العادل للسلطات الدستورية بين المركز والأقاليم، تصحبه إلتزامات مالية يجب الوفاء بها لانجاز هذه المهام. مثال الجيش والامن يتم الصرف عليهما من مالية المركز في حين الخدمات الصحية المحلية تقوم الولايات بالصرف عليها. إذاً في هذه الحالة لا بد من وجود قانون يضع معايير منصفة لتوزيع مال الدولة للوفاء بالإلتزامات المقررة لكل سلطة. المبدأ العام للفيدرالية الإدارية والفيدرالية المالية، هو في جوهره مبدأ واحد ألا وهو التوزيع العادل للسلطات الإدارية والمالية بين المركز والولايات. لكن هناك بعض المسائل تخص الفيدرالية المالية يجب توضيحها هنا.
(1) في الفيدرالية المالية تنشأ هيئة مستقلة دستورياً، تقوم بجمع مال الدولة كله في خزينة واحدة وهي المسئولة عن توزيع ذلك المال، بهذا يمكن أن توصف هذه الهيئة بأنها الجهة الوحيدة التي تمارس السيادة على مالية الدولة.
(2) يتم تأسيس معايير قانونية بعلم كل أجهزة الدولة لتوزيع المال، هذه المعايير تضع في الإعتبار إحتياجات المركز وإحتياجات االولايات للمال المطلوب لفترة زمنية محددة. من أهم بنود المعايير، يلاحظ درجة التنمية الاقتصادية في ولاية ما، حجم مساحة الولاية، عدد سكان الولاية، درجة مساهمة الولاية في الدخل القومي، إلخ. هذه المعايير تتغير من وقت لآخر، ومعها تتغير النسب المقررة بين المركز واالولايات، بل من أهم التعدلات في النسب المقررة، هي تلك التي بين الولايات عندما يتحصل نسبة معتبرة في تطوير الولايات الأقل نمواً.
(3) الصرف على المشاريع القومية هو من مهام المركز. المهم في الفيدرالية المالية أن أية ولاية لن تستطيع أن تطبق النظام الفيدرالي الصحيح ما لم يتوفر لها المال الكافي لإدارة شئونها الداخلية.
هـ- الحريات: الإعلام الحر والحريات الأساسية للإنسان كلها من المسائل الضرورية التي يجب أن تتوفر لضمان سلامة تطبيق النظام الفيدرالي. هذه الحريات يجب أن تستند على دستور وطني يقوم على أساس عقد اجتماعي متفق عليه كل أبناء السودان على إختلاف أعراقهم ودياناتهم وأقاليمهم.
6- توصيات:
مما سبق لنا قناعة راسخة بضرورة تطبيق نظام فيدرالي حقيقي في السودان، ليس فقط للظرف التاريخي الذي صاحب إنشاء الدولة السودانية مع كبر حجم مساحتها وتعدد قومياتها وثقافاتها، بل أن عدم تطبيقه قاد البلد إلى أن ينقسم إلى دولتين "مطالب مؤتمر جوبا العام 1947م"، وقد تتواصل الانقسامات. كما أن من ضروريات تطبيق الفيدرالية الحقيقية، ليس فقط أن عالم اليوم يتجه عموماً إلى تبني النظام اللامركزي في أشكاله المختلفة، بل لأن في تطبيق النظام الفيدرالي، يكمن ممارسة الحريات والديمقراطية وبسط السلام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أبكر محمد أبوالبشر زينب كباشي
الثلاثاء، 15 يناير، 2013م
برنامج البديل الديمقراطي
1- المحور الاقتصادي:
علي عبدالقادر، إبراهيم البدوي، حامد التجاني، الطيب الأمين، د. جبريل إبراهيم محمد، محمد علي جادين، د. محمد إبراهيم كبج.
2- مشروع القوانين البديلة:
تحالف المحامين الديمقراطيين.
3- الصحة والتعليم الطبي:
نقابة الأطباء.
4- قضايا التعليم:
مكي الدخري، محمد الأمين التوم، علي عبد الله عباس، قاسم بدري، بكري محمد علي، المعلمين الديمقراطيين.
5- قضايا الثقافة:
د. محمد سليمان، محمد محمود، عبد الله جلاب، عبد العزيز الصاوي، عمر القراي.
6- الصلح الاجتماعي (العقد الاجتماعي):
عبد السلام نورالدين، أبكر أبو البشر.
7- الفدرالية:
أحمد إبراهيم دريج، أبكر أبوالبشر، زينب كباشي.
8- الإعلام:
زهير السراج، مرتضى الغالي، فيصل محمد صالح، الخاج وراق، عبد الرحمن الأمين، الصادق حمدين، عبد الوهاب همت، تاج السر حسين، محمود محمد صالح.
9- النقابات:
الأطباء، المحامين، المهندسين، المعلمين.
10- مشروع الجزيرة:
تحالف المزارعين.
11- إعادة الهيئة القضائية:
عبد القادر محمد أحمد، حمدنا الله عبد القادر.
12- إسترداد المال العام:
حمدنا الله عبد القادر، وآخرون.
13- النزوح والتصحر وقضايا البيئة:
خلف سعيد، عثمان الخير (مقرران).
14- قضايا المرأة:
آمنة الناجي (مقررة) المجموعات النسوية.
15- مستقبل الحركات المسلحة:
(التنظيمات المسلحة).
ملاحظات:
أرى أن تضاف المحاور التالية في هذا المشروع العظيم:
تضاف نقابة العمال ضمن المحور رقم 9 النقابات
تضاف محور خاص بترسيم الحدود السودانية خاصة مع ليبيا (جبل عوينات) ومصر (حلايب)، وتضمن في هذا المحور أيضاً مسألة الآثار (وفي بالنا سد كجبار وما يمكن أن تدمره من الآثار وأيضاً الآثار في جبل سي بدارفور).
تضاف محور الشباب والطلاب كقطاع اجتماعي مستقبلي.
تضاف محور منفصل عن النزوح واللجوء وإعادة التأهيل.
ميثاق حماية الديمقراطية.
لأهمية البيئة ولأنها من القضايا العالمية تكون محور قائم بذاتها (البيئة والتصحر).
عزيزي/تي القارئ/ئه
بعد الرسالة الاولي في 11 يونيو الماضي هذه هي الرسالة الثانية وتتضمن " بعض المواد والمقترحات المتعلقة بالجانب الاخر الضروري لعمل المعارضة وهو معالجة جذور معضلة الديموقراطية عندنا حتي لاتتكرر الانتكاسات التي وقعت بعد ثورة 64 وانتفاضة ابريل 85 "، كما جاء في شرح هذه الفكرة التي يمكن الاطلاع علي ملخص لها في اخر هذه الرساله.
عبد العزيز حسين الصاوي ( محمد بشير )
30 اغسطس 2013
/////////////////////////////////////
( 1 ) SENIOR CITZENS
بالنسبة للذين تنطبق عليهم هذه الصفه هناك فرصة للتعرف علي كيفية عمل البرلمان البريطاني يوم 14 اغسطس القادم ينظمها . Kensington and Chelsea forum
يرجي الاتصال بالرقم ادناه اوعنوان البريد الالكتروني بأسرع فرصة ممكنه
02073521336
Kensingtonanandchelseaforum@@hotmail.co.uk
( 2 ) السودانيون في امريكا
تحت شعار: نحو بناء قاعدة سودانية- أمريكية قوية صدرت الدعوة أدناه اواخر يوليو 2013 للسودانيين الامريكيين. بالاضافة للاهداف الهامة والضرورية التي يحققها هذا الكيان كما تشرحهاالدعوة، فأن النظر اليها من زاوية التنمية الديموقراطية التي تتبناها هذه الرسائل يكشف عن أهمية إضافية وهي كونها نموذج لشروع الجاليات السودانية في الدول الديموقراطية الاستفادة من الاليات التي تتوفر في هذه الانظمة مما يساعد في الوقت نفسه علي تعميق وعي السودانيين بالديموقراطية من خلال الممارسة ومعرفتهم بكيفية اشتغالها. وبؤمل ان يحذو سودانيو بريطانيا وغيرها من الدول الديموقراطية التي يزداد عددها بأضطراد، حذو سودانيي امريكا وان يحرص الجميع علي نقل هذا الوعي وهذه المعرفة الى السودانيين في الداخل وغيرهم ممن لم تتح لهم هذه الفرصة.
نص الدعوة
""" تدعو لجنة تسيير الجمعية السودانية الأمريكية للشئون العامة (سابا) عموم الامريكيين ذوي الأصول السودانية لحضور تدشين فعاليات مؤتمرها التأسيسي الأول، والذي يعد أيضاً الأول من نوعه في هذا المضمار، ويشتمل البرنامج على العديد من الأنشطة المتعددة والمتنوعة. الجمعية السودانية الأمريكية للشئون العامة (سابا) منظمة مجتمع مدني، مستقلة، وغير ربحية. تأسست حديثاً لمخاطبة قضايا الأمريكيين من ذوي الأصول السودانية، بهدف تجسير الهوة العميقة التي باعدت بين الهويتين، وتستهدف (سابا) في هذا الإطار الأجيال الناشئة، وتعمل على مساعدتهم للاستفادة من حقوقهم الكاملة والتي تكفلها القوانين والدستور الأمريكي. التسجيل للمؤتمر مجاناً في موقع المنظمة (سابا) الألكتروني وذلك على الرابط التالي: http://www.sapaa.org/conference_form.php
( 3 ) متابعة نشاطات وانباء الاحزاب البريطانيه من خلال الاعلام وسيلة سهلة للتعلم منها كما حدث في يوم 5 يوليو ومابعده في حزب العمال حول اختيار مرشحي الحزب للانتخابات . ثار نزاع حول استخدام قائد نقابي لوسائل غير قانونية لتحسين فرص اختيار شخص معين من قبل اعضاء الحزب في الدائرة كمرشح للحزب في انتخابات فرعية عن طريق زيادة عدد اعضاء الحزب من بين اعضاء النقابه. جرت مناقشات علنية وداخل الحزب وأحيل النزاع في النهاية الي السطات البوليسية لتحديد ماإذا كان هناك تلاعب. عند كتابة هذه السطور لازال الامر لم يحسم ولكن من الدروس الاخري التي خرج بها حزب العمال تحديد حد اقصي للمبالغ التي يمكن ان يصرفها الطامحون الي نيل ترشيح الحزب ضمن قوائمه للانتخابات وذلك لمنع استغلال النظام الحالي سواء من قبل الافراد او النقابات.
متابعة مثل هذه الاخبار تتيح فرصة ايضا لدراسة كيفية عمل الاحزاب البريطانية وفي هذه الحالة علاقة حزب العمال بالنقابات وهي تجربة فريدة من نوعها.
( 4 ) مقال كتبته شابة سودانية بالانجليزية في مدونة حول تطوير أداء المعارضة السودانية وعلاقة السودانيين عموما بالمحيط البريطاني يمكن الاطلاع عليه في الرابط التالي
http://newint.org/blog/2013/07/11/sudanese-diaspora-challenge/
( 5 ) حول التعليم
خلال الفترة الماضية اصدر حزبان سودانيان بيانات حول هذا الموضوع.
++ حزب الامة : ضمن كلمة لرئيس الحزب في احتفال بالمعلمين يوم 19 مايو الماضي استعرض فيها أهمية التعليم وعيوبه الحالية، ورد الاتي : " أننا في حزب الأمة وهيئة شئون الأنصار عاملون الآن على أن نقيم مؤتمراً لكي يشخص الحالة في التعليم ويقول ما هو الحل، لأنه لا يكفي فقط ذكر الأخطاء. وسيقوم المؤتمر بثلاث أشياء:
أولاً: يقيم المؤتمرات التي عقدت في الفترة الماضية ويقول رأيه فيها.
ثانياً: يعمل تشخيص كامل للحالة التعليمية في البلد، وقد قمت الآن ببعض التشخيص.
ثالثاً: كتابة الروشتة، ماذا نعمل في هذا الأمر؟
تعليق : رأي معد هذه الرسائل الشخصي ان من واجب الجميع أفرادا كانوا او احزابا حث حزب الامه علي الالتزام بتنفيذ هذه الفكره والمساهمة معه في ذلك بقدر الامكان. القضايا التي تتطلب تنحية الخلافات بين الاحزاب والافراد في السودان كثيرة ولكن الاكثر إلحاحا من بينها هو المتصل بقضية التعليم سواء في هذه المرحلة أو غيرها.
++ حزب التحرير : في 27 يونيو الماضي اصدر حزب التحرير الاسلامي دعوة لحضور منتدي بعنوان "
ازمة التعليم في السودان "
تعليق : من المعروف ان هذا الحزب يدعو الى إحياء الخلافة الاسلامية ويطلق علي السودان وصف " الولاية"
في إطار معتقداته. ومع الاحترام الكامل لحق حزب التحرير في طرح ارائه فأن المغزي الذي تنطوي عليه هذه
الدعوة هو تأكيد صحة التقدير الذي تقوم عليه فكرة هذه الرسائل حول قوة إحساس الرأي العام بأزمة التعليم وبالتالي
التقصير الشنيع لقوي المعارضة في هذا الخصوص بما يعني ان جهات اخري تستجيب لهذا الاحساس علي
طريقتها وتكسب بذلك ثقة الراي العام في أفكارهاعموما وفيما يتعلق برؤيتها لهذا الموضوع. من ناحية اخري فأن
تحجج البعض بأن إصلاح التعليم غير ممكن إلا بعد سقوط النظام يتجاهل ان اخرين يستغلون اي فرصة تتاح لهم
لمحاولة تحقيق مايمكن تحقيقه منذ الان وهو بالضبط ما تدعو إليه هذه الرسائل. مالايدرك جله لايترك كله.
///////////////
النص الكامل للديباجة في شرح فكرة الرسائل
في إطار جهد فردي متواضع للاسهام في العمل المعارض سأقوم من حين لاخر بأرسال بعض المواد
والمقترحات المتعلقة بالجانب الاخر الضروري لهذا العمل وهو معالجة جذور معضلة الديموقراطية عندنا
حتي لاتتكرر الانتكاسات التي وقعت بعد ثورة 64 وانتفاضة ابريل 85. تقوم هذه المحاولة علي الفكرة
التي وردت في كتابي " الديموقراطية المستحيلة، معا نحو عصر تنوير سوداني " وملخصها إن المصدر
القاعدي لازمة الديموقراطية في السودان هو نضوب الرصيد الاستناري ( العقلانيه، قابلية التفاعل مع
الافكار الجديده الخ.. ) الذي يشكل البنية التحتية للديموقراطية نظرا لاختلاف ظروفنا التاريخية عن اوروبا
ثم تكرار الانقلابات العسكرية وانظمتها الشمولية، وان السبيل إلى تفكيك هذه المعضلة التي تسببت في فشل
توطيد الديموقراطية، يمر عبر تنشيط المجتمع المدني وإعادة هيكلة النظام التعليمي باعتبار ان تأسيس
التعليم الحديث شكل المدخل الاول والرئيسي للاستنارة.
التعريف البسيط للمجتمع المدني هو كونه مجموعة تشكيلات طوعيه لاحكوميه ولاربحيه مداره
ذاتيا بين مجموعة من الناس لخدمة مسألة معينه بصفتهم الفردية وهو بذلك ينمي روح المبادره والتفكير
النقدي المستقل لدي المواطنين، بذرة تحرير عقل الانسان وارادته واطلاق قدراته اللامتناهيه علي الابداع.
كما ان طبيعته اللاحزبية تمكنه من اجتذاب مجموعات اكبر بالمقارنة للاحزاب مما يجعله أداة فعاله
للاشتغال علي قضية التعليم. علي ان المجتمع المدني ليس بديلا للاحزاب رغم انه يساعد في إعداد
المواطنين للانتساب الحي والمنتج اليها ويمكن في بعض الاحيان ان يحقق اهدافا سياسية مباشرة ضد الانظمة
الشمولية كما اثبتت تجربة مصر وتونس وغيرهما مؤخرا حيث جاءت المبادرة من تشكيلات للمجتمع
المدني.
سواء صحت رؤية الكتاب المذكور التي تقوم عليها هذه المحاولة أو لم تصح فأن من المؤكد إن أي جهد يبذل
علي الصعيدين المذكورين مفيد للمعارضة وللمجتمع عموما، كما أن من الساحة البريطانية وفيها تتوفر
فرص كبيرة لتنمية روح وممارسات المجتمع المدني وخدمة قضية التعليم. وسأسعي من خلال هذه الرسائل
لإثارة الاهتمام بهذا الجانب مرحبا بأي اراء أو مقترحات او مساعده بأيصال الرسالة إلى آخرين أو إلى
مواقع اسفيرية .